السادس: هبْ أنّ ابن حبّان صادق في قوله، لكنّ رمي الراوي بنكارة الحديث لا يوجب بإطلاقه ردّ حديثه، والحكم عليه بالوضع ـ كما
توهّم الخصوم ـ لاَنّه لم يُتّهم بالكذب، ولا بوضع الحديث قال الشيخ الإمام تقيّ الدين السُبْكي: إنّ ممّا يجب أن يُتنبَّه له أنّ حُكم المحدّثين بالأنكار والأستغراب قد يكون بحسب تلك الطريق، فلا يلزم من ذلك ردّ متن الحديث "
قلت:
وكم من راوٍ قيل فيه «منكَر الحديث» أو ما في معناه، ومع ذلك احتجّ به الشيخان في الصحيحين، وغيرهما من أرباب السنن من دون تريّث ولا مبالاة بما وُصم به، وهاك منهم على سبيل الأجمال:
1 ـ أحمد بن شعيب بن سعيد الحبطي، روى له البخاري والنسائي وأبو داود قال أبو الفتح الأزدي: منكَر الحديث، غير مرضيّ
2 ـ وأسيد بن زيد الجمّال، روى عنه البخاري في الرقاق قال ابن حبّان: يروي عن الثقات المناكير، ويسرق الحديث، بل قال ابن معين: حدّث بأحاديث كذب
3 ـ وتوبة بن أبي الأسد العنبري، روى له الشيخان وأبو داود والنسائي
قال الأزدي: منكَر الحديث
4 ـ وحسّان بن حسّان ـ وهو حسّان بن أبي عبّاد البصري ـ روى عنه البخاري قال أبو حاتم: منكَر الحديث
5 ـ وحميد بن الأسود البصري، روى له البخاري وأصحاب السُنن
قال أحمد بن حنبل: ما أنكر ما يجيء به!
6 ـ وخيثم بن عراك بن مالك الغفاري، روى له البخاري ومسلم والنسائي قال الأزدي: منكَر الحديث
7 ـ وعبد الرحمن بن شريح بن عبد الله بن محمود المعافري، احتجّ به الجماعة قال ابن سعد: منكَر الحديث
8 ـ والمفضّل بن فضالة القتباني المصري، اتّفق الجماعة على الأحتجاج به قال ابن سعد: منكَر الحديث
9 ـ وموسى بن نافع الحنّاط، روى له الشيخان والنسائي وأبو داود
قال أحمد بن حنبل: منكَر الحديث فلو كان قولهم: «منكَر الحديث» موجِباً لطرح حديث الراوي لَلَزم إبطال جملة وافرة من أحاديث الكتب الستّة وغيرها، ولا يلتزم به منهم أحد ولمّا أعلّ ابن الجوزي حديث أنس ـ عند الترمذي ـ: «اللّهمّ أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين»، بقوله: لا يصحّ، لاَنّ فيه الحارث بن النعمان، منكَر الحديث؛ تُعُقِّب بأنّ ذلك لا يقتضي الوضع ـ كما في تنزيه الشريعة المرفوعة لابن عرّاق ـ فلو سلَّمنا قول ابن حبّان في الحسن بن صابر وصدّقناه، فإنّ حديثه هذا ليس منكَراً، لوجود المتابع، فلا وجه لردّ حديثه جملةً
ولعلّ في إيراد ابن حبّان حديثاً آخر في ترجمته ـ شاهداً على مقالته ـ دون حديث الباب إشعاراً بما ذكرنا، والله أعلم
وبالجملة:
فقوله في الرجل «منكَر الحديث» لا يدلّ على أنّ كلّ ما رواه منكَر حتّى هذا الحديث ـ كما مرّ عن الذهبي ـ بل جاز أن يراد به أن له مناكير وقعت في أحاديثه، كما قالوا ذلك في جماعة، كإبراهيم بن المنذر الحزامي، والحكم بن عبد الله البصري، والفضل بن موسى السيناني، ومحمّد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ ـ الذي إليه المرجع في حديث «إنّما الأعمال بالنيّات» ـ ومحمّد بن طلحة بن مصرف الكوفي وهؤلاء احتجّ بهم البخاريّ وغيره، فتبيَّن فساد رأي من ردّ الحديث من المتأخّرين اغتراراً بكلام ابن حبّان، وانكشف وهن قول الألبانيّ: إنّ الحسن هذا متّهم، ووهى وكذا تعقّبُه على المُناوي ـ إذ أعلّ حديث الترجمة في فيض القدير بقول ابن حبّان ـ: بأنّ ذلك يقتضي أنّ إسناده ضعيف جدّاً، وأنّ قوله في التيسير: «إسناده ضعيف» غاية في التقصير هذا مع جزمه سابقاً بأنّ الحديث موضوع ومن هنا تذعن بضعف هذا الألبانيّ في هذا العلم الشريف وقصوره فيه، وعدم اتّباعه للمتقرّر عند أهله، إذ حكم على الحديث أوّلاً بأنّه موضوع ـ وهو شرّ الضعيف، لأنه لا درجة بعده مطلقاً ـ ثمّ ذكر أنّ إسناده ضعيف جدّاً، وهذا تناقض عظيم، وجهل كبير يعلمه طلبة نخبة الفكر، لاَنّ السند الضعيف لا يصل أن يكون به الحديث موضوعاً، بل يحتمل أن يكون واهياً يرتفع إلى درجة الضعيف، بخلاف الحديث الموضوع، فإنّه لا يرتفع إلى درجة الضعيف مطلقاً، ولا تنفع فيه المتابعات والشواهد ـ كما أفاد شيخنا ابن الصدّيق أدام الله حراسته
السابع: أنّ ممّا يكاد أن يُقطع به أنّ ابن حبّان لم يقل في ابن صابر «منكَر الحديث جدّاً» إلا لكونه كوفيّاً روى في فضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وهذا عنده ذنب لا يغفر، وبمثله يُرمى الرجل بالتشيّع فيُردّ حديثه، وهذه عادة النواصب اللئام ـ قبّحهم الله تعالى وأخزاهم ـ في أكثر ما روي من مناقب آل النبيّ (ص)، وقلوبهم المنكَرة تنكِر ما ثبت في ذلك، حتّى إنّ أحدهم إذا لم يجد مطعناً في الإسناد قال ـ متعنّتاً ـ: في النفس من هذا الحديث شيءٌ، أو: إنّ القلب ليشهد ببطلانه، وما ذلك إلا من جفائهم للعترة الطاهرة المطهَّرة، وسعيهم في إطفاء نور الله تعالى
ومن تتبّع كلام الغويّ الجوزجاني وابن قايماز التركماني وأضرابهما من ألدّاء النواصب أذعن لما قلنا، أمّا فضائل خصومهم التي ما أنزل الله بها من سلطان فلا ترى فيها شيئاً من ذلك التشدّد المقيت، والتقوّل السخيف،وهم أعلم الخلق بكذبها وبطلانها، لكنّ حبّ الشيء يُعمي ويُصمّ، وهوان آل محمّد (ص)على هؤلاء الأجلاف الجفاة حملهم على ذلك، فلا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم وأمّا قول السندروسي في كتابه الكشف الألهيّ عن شديد الضعف والموضوع والواهي ـ في حديث الباب ـ: إنّ سنده واهٍ فليس بشيء؛ لاَنّه فسَّر الواهي: بأنّه ما يوجد في سنده كذّابان أو أكثر، قال: يعني في كلّ طريقٍ من طرقه "وليت شعري، كيف وهّى السند مع عدم اشتماله على كذّاب واحد، فضلاً عن كذّابَيْن، فضلاً عن تحقّق ذلك في كلّ طريق من طرقه؟! فناقض بذلك نفسه!
وقد تحصّل ـ ممّا مرّ ـ أنّ ابن صابرٍ الكسائي غير مطعون فيه، وأنّ جرح ابن حبّان إيّاه بنكارة الحديث ـ مع تفرّده به واختلافهم في قبول الجارح الواحد ـ مردودٌ عليه، لِما بيّنّا من حاله في جرح الرواة، ومبلغ ذلك عند الأئمّة النقّاد فإنْ قال قائل:
يلزم ممّا قرّرتَ أن يكون الحسن بن صابر في عِداد المجهولين
قلنا:
لا يضرّه ذلك، لاَنّ المراد إمّا جهالة العين أو جهالة الوصف فإنْ أُريد جهالة العين ـ وهو غالب اصطلاح أهل هذا الشأن في هذا الإطلاق ـ فذلك مرتفع عنه، لأنه قد روى عنه عبد الله بن يزيد والفضل بن يوسف القصَباني، وبرواية اثنين تنتفي جهالة العين، فكيف برواية العراقيّين عنه ـ كما ذكر ابن حبّان في ترجمته ـ مضافاً إلى أنّه عرّفه فوصفه بما ذكره
وإن أُريد جهالة الوصف، فغاية الأمر أنّه مستور، لاَنّ ظاهر أمره على العدالة، وقد قبل روايته ـ أعني المستور ـ جماعة بغير قيد كأبي حنيفة ـ وتبعه ابن حبّان ـ إذ العدل عنده من لا يُعرف فيه الجرح
قال: والناس في أحوالهم على الصلاح والعدالة، حتّى يظهر منهم ما يوجب الجرح ـ كما في شرح الشرح للقاري ـقال أبو عمرو بن الصلاح: يشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة في غير واحد من الرواة الّذين تقادم العهد بهم وتفّدرت الخبرة الباطنة بهم، وصححّه النووي في شرح المهذّب كما في تدريب الراوي
وقال في علوم الحديث: حكى الإمام أبو المظفّر السمعاني وغيره عن بعض أصحاب الشافعي: أنّه تُقبل رواية المستور وإن لم تقبل شهادته
قال ابن الصلاح: ولذلك وجه متّجه "وقال أيضاً: الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستورٍ لم تتحقّق أهليّته، غير أنّه ليس مغفَّلاً كثير الخطأ في ما يرويه، ولا هو متّهم بالكذب ـ أي لم يظهر منه تعمّد الكذب في الحديث ـ ولا سببٍ آخر مُفسِّق، ويكون متن الحديث مع ذلك قد عُرف، بأن رُوي مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر، حتّى اعتضد بمتابعة مَن تابع راويه على مثله، أو بما له من شاهد ـ وهو ورود حديث آخر بنحوه ـ فيخرج بذلك عن أن يكون شاذّاً أو منكَراً قال: وكلام الترمذي على هذا القسم يتنّزل "
قلت:
فجهالة حال ابن صابر ـ بل حتّى التكلّم فيه بنكارة الحديث ـ لا تضرّه في المقام، إذ قد توبِع على حديثه من طريق حمدان بن المعافى فبانَ، أنّه لم يتفرّد به وقد روى هذه المتابعة الأمام الحافظ الفقيه ابن المغازلي الشافعي في (المناقب)، قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن المظفّر بن أحمد العطّار ـ الفقيه الشافعي ـ بقراءتي عليه فأقرَّ به، قلت: أخبركم أبو محمّد عبد الله بن محمّد بن عثمان المزني ـ الملقّب بابن السقّا ـ الحافظ الواسطي، قال: حدّثني محمّد بن علي بن معمر الكوفي، حدّثنا حمدان بن المعافى، حدّثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله (ص): ذِكْرُ عليٍّ عبادة وهذه متابعة تامّة ثبت بها خروج الحسن بن صابر من عهدة الحديث، وزالت عنه التهمة، وظهر أنّه لا يدور عليه ـ خلافاً لِما توهّمه المبطلون ـ أمّا أبو جعفر حمدان بن المعافى الصبيحي، مولى جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام، فقد روى عن موسى الكاظم وأبي الحسن الرضا ، وقد دَعَوا له وأمّا صاحبه أبو الحسين محمّد بن عليّ بن معمّر الكوفي، فقد ذكر الشيخ الأمام أبو جعفر الطوسي رحمه الله تعالى في (رجاله): أنّ التلعكبري سمع منه سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وله منه إجازة فإن قال قائل:قد قرّروا أنّ الداعية إذا روى ما يؤيّد مذهبه فإنّ حديثه يُردّ بالإجماع
قلنا:
إنّ هذه حيلة احتالها النواصب ـ أعداء الله وأعداء رسوله (ص)ـ لردّ أحاديث الفضائل والمناقب الواردة في عليّ وعترته الزكيّة، فزعموا أنّ راويها إذا كان متشيِّعاً فإنّ حديثه مردود، ولكن هذا كلّه ـ والله ـ باطل من رأسه، فلا تشيّع الراوي يوجب ردّ حديثه، ولا روايته في فضل عليٍّ وآله وهل يروي فضائلهم إلا شيعتهم ومحبّوهم؟!وهل يُعقل أن يحدّث بها ـ عن طوعٍ ـ مَنْ عاداهم ممّن أقام دهره على نصبهم وعداوتهم؟!
اللهمّ لا ولو كان تشيّع الراوي قادحاً لَما أخرج الشيخان في الصحيحين عن جماعة من المتشيّعين، وقد جمع الحافظ ابن حجر أسماء من روى لهم البخاريّ منهم، فسمّى نحو السبعين، قال ابن الصدّيق: وما أراه استوعب
وأمّا صحيح مسلم، ففيه أكثر من ذلك بكثير، حتّى قال الحاكم: إنّ كتابه ملآن من الشيعة وقد روى الأمام أحمد في(مسنده) عن عبد الرزّاق بن همّام الصنعاني ما لعلّه يبلغ نصف مسنده، وحكى الذهبي في تذكرة الحفّاظ عن أبي أحمد الحاكم، قال: سمعت أبا الحسين الغازي يقول: سألت البخاريّ عن أبي غسّان فقال: عمّ تسأل عنه؟ قلت: شأنه في التشيّع فقال: على مذهب أئمّة أهل بلده الكوفيّين، ولو رأيتم عبيد الله وأبا نعيم وجميع مشايخنا الكوفيّين لَما سألتموني عن أبي غسّان ـ يعني لشدّتهم في التشيّع ـواعترف الذهبي أيضاً في ميزان الاعتدال بترجمة أبان بن تغلب:بأنّه لو رُدّ حديث المتشيّعين مطلقاً لذهبت جملة من الآثار النبويّة،قال: وهذه مفسدة بيّنة وقد قبل جماعة من الأئمّة كالثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف وابن أبي ليلى وآخرون رواية المبتدع مطلقاً، سواء كان داعية أو لم يكن، بل نُقل عن جماعة من أهل الحديث والكلام قبول رواية المبتدعة ـ ولو كان كافراً ببدعته ـ واحتجّ الشيخان والجمهور بأحاديث الدُعاة كحريز بن عثمان، وعمران بن حطّان، وشبابة بن سوار، وعبد الحميد الحِمّاني وأضرابهم إذا تقرّر هذا، تبيَّن لك إغراب ابن حبّان والحاكم في حكاية الإجماع على اشتراط عدم كون الراوي داعية في قبول رواية المبتدع، وهو باطل في نفسه، مخالف لِما هم مجمعون عليه في تصرّفهم، وإنّما نشأ ذلك عن تهوّر وعدم تأمّل ـ كما قال الحافظ أبو الفيض بن الصدّيق ـوأمّا اشتراط كونه روى ما لا يؤيّد بدعته فهو من دسائس النواصب التي دسّوها بين أهل الحديث ليتوصّلوا بها إلى إبطال كلّ ما ورد في فضل عليّ ، وذلك أنّهم جعلوا آية تشيّع الراوي وعلامة بدعته هو روايته فضائل عليّ ، ثمّ قرّروا أنّ كلّ ما يرويه المبتدع ممّا فيه تأييد لبدعته فهو مردود ـ ولو كان من الثقات ـ والذي فيه تأييد التشيّع ـ في نظرهم ـ هو فضل عليٍّ وتفضيله، فينتج من هذا أن لا يصحّ في فضله حديث ـ كما صرّح به بعض من ألقى جلباب الحياء عن وجهه من غلاة النواصب كابن تيميّة وأضرابه ـ قال الأمام الحافظ شهاب الدين أحمد بن الصدّيق في فتح الملك العليّ بصحّة حديث باب مدينة العلم عليّ : وقد راجت هذه الدسيسة على أكثر النقّاد، فجعلوا يثبتون التشيّع برواية الفضائل، ويجرحون راويها بفسق التشيّع، ثمّ يردّون من حديثه ما كان في الفضائل، ويقبلون منه ما سوى ذلك ولعمري إنّها دسيسة إبليسيّة، ومكيدة شيطانيّة، كاد ينسدّ بها باب الصحيح من فضل العترة النبويّة، لولا حكم الله النافذ (والله غالب على أمره)، (يريدون أن يُطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون)
قال: وأوّل من علمته صرّح بهذا الشرط ـ وإن كان معمولاً به في عصره ـ إبراهيم بن يعقوب الجوزجانيّ، وكان من غلاة النواصب، بل قالوا: إنّه حريزيّ المذهب، على رأي حريز بن عثمان وطريقته في النصب
قال: وهذا الشرط لو اعتُبر لأفضى إلى ردّ جميع السُنّة، إذ ما من راوٍ إلا وله في الأصول والفروع مذهب يختاره، ورأي يستصوبه ويميل إليه، ممّا غالبه ليس متّفقاً عليه، فإذا روى ما فيه تأييد لمذهبه وجب أن يُردّ ـ ولو كان ثقةً مأموناً ـ لأنه لا يُؤْمَن عليه حينئذٍ غلبة الهوى في نصرة مذهبه، كما لا يُؤْمَن على المبتدع الثقة المأمون في تأييد بدعته
فكما لا يُقبل من الشيعي شيء في فضل عليّ ، كذلك لا يقبل من غيره شيء في فضل أبي بكر، ثمّ لا يقبل ما فيه دليل التأويل، ولا من السَلَفي ما فيه دليل التفويض، ثمّ لا يقبل من الشافعي ما فيه تأييد مذهبه،ولا من الحنفي كذلك، وهكذا بقيّة أصحاب الأئمّة الّذين لم يخرج مجموع الرواة بعدهم عن التعلّق بمذهب واحدٍ من مذاهبهم أو موافقته وحينئذٍ فلا يقبل في بابٍ من الأبواب حديثٌ إلا إذا بلغ رواته حدّ التواتر، أو كان متّفقاً على العمل به، وذلك بالنسبة لخبر الآحاد وما هو مختلف فيه قليل وبذلك تُردّ السُنّة أو ينعدم المقبول منها، وهذا في غاية الفساد، فالمبنيّ عليه كذلك، إذ الكلّ يعتقد أنّ مذهبه ورأيه صواب، وكونه باطلاً وبدعةً في نفسه أمر خارج عن معتقد الراوي ولهذا لم يعتبروا هذا الشرط ولا عرّجوا عليه في تصرّفاتهم أيضاً، بل احتجّوا بما رواه الشيعة الثقات ممّا فيه تأييد مذهبهم وأخرج الشيخان فضائل عليّ من رواية الشيعة، كحديث: «أنت منّي وأنا منك» أخرجه البخاري من رواية عبيد الله بن موسى العبسي، الذي أخبر عنه البخاري أنّه كان شديد التشيّع، وحديث: «لا يحبّك الأ مؤمن ولا يبغضك إلا منافق» أخرجه مسلم من رواية عدي بن ثابت، وهو شيعيّ غالٍ، داعية وهكذا فعل بقيّة الأئمّة، أصحاب الصحاح والسُنن والمصنّفات الّذين لا يخرّجون من الحديث إلا ما هو محتجّ به، وصرّحوا بصحّة كثير منها، وذلك كثير لمتتبّعه، دالّ على بطلان هذا الشرط وإنّما سُقتُ لك كلام هذا الإمام الخرّيت ـ بطوله ـ لنفاسته، وهو الحقّ الذي لا محيد عنه (فماذا بعد الحقّ إلا الضلال فأنّى تصرفون)، ولم أرَ مَن سبقه إلى هذا التمحيص الأنيق، فاشدد عليه يديك، وعضّ عليه بناجذيك، والله الموفّق والمستعان
فإنْ قلت:ومع ذلك فقد يقال: إنّ الحديث فرد مطلق، تفرّد به وكيع بن الجرّاح في جميع طرقه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة
قلت:وإن كنت ستعرف أنّ الأمر ليس كما قيل، لكنّ لو سُلّم فلا ضير في ذلك، فإنّ وكيعاً متّفق على ثقته، وقد احتجّ به الجماعة، ومن روى له الشيخان فقد جاز القنطرة ـ كما قاله الأمام أبو الحسن عليّ بن المفضّل المقدسي فتفرّد مثل وكيع ليس بقادحٍ البتّة، لاَنّ الثقة إذا روى ما لم يروه غيره فمقبول إذا كان عدلاً ضابطاً حافظاً، فإنّ هذا لو رُدَّ لرُدّت أحاديث كثيرة من هذا النمط، وتعطّلت كثير من المسائل عن الدلائل ـ كما قال الحافظ عماد الدين ابن كثير في اختصار علوم الحديث ـوقال شمس الدين ابن قيّم الجوزيَّة: إذا روى الثقة حديثاً منفرداً به، لم يروِ الثقات خلافه، فإنّ ذلك لا يُسمّى شاذّاً، وإن اصطلح على تسميته شاذّاً بهذا المعنى لم يكن هذا الاصطلاح موجِباً لردّه ولا مسوّغاً له
وقال الأمير الصنعاني في توضيح الأفكار: إذا تفرّد الراوي بشيء نُظر فيه، فإن كان ما انفرد به مخالفاً لِما رواه مَن هو أَوْلى منه بالحفظ لذلك وأضبط كان ما انفرد به شاذّاً مردوداً، وإن لم تكن فيه مخالفة لما رواه غيره، وإنّما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره فينظر في هذا الراوي المنفرد، فإن كان عدلاً حافظاً موثوقاً بإتقانه وضبطه قُبل ما انفرد به ولم يقدح الإنفراد فيه " موضع الحاجة من كلامه ووكيع: إمام مقدَّم في الحديث، متّصف ـ عند القوم ـ بجميع ما اشترطوه من الصفات بلا نكير، فلا ينبغي الطعن في حديث الباب من هذه الجهة، والله وليّ التوفيق
هذا كلّه بالإضافة إلى حديث الحسن بن صابر ومتابعته، وقد روي الحديث أيضاً من طريق محمّد بن زكريّا الغلابي، عن جعفر بن محمّد بن عمّار، عن أبيه، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن عليّ بن الحسين، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ في حديث ـ قال: قال رسول الله (ص): النظر إلى عليّ بن أبي طالبٍ عبادة، وذِكْره عبادة
فإن قيل:الحمل فيه على الغلابي، لاَنّه متّهم، وقال الدارقطني: يضع الحديث "قلت:هذا تعسّف وإسراف من الدارقطنيّ، ولم يتابعه عليه أحد، بل إنّ الذهبي ـ على تعنّته وتشدّده ـ اقتصر في ميزان الاعتدال على تضعيفه، وحكى عن ابن حبّان أنّه ذكره في الثقات وقال: يُعتبر بحديثه إذا روى عن ثقة، وقال: في روايته عن المجاهيل بعض المناكير، وقال ابن مندة: تُكُلّم فيه ووجه طعنهم في الرجل غير خافٍ، فإنّه كان من وجوه الشيعة بالبصرة، وروى مناقب الآل وصنّف فيها، ولذا قال فيه ابن النديم في الفهرست: كان ثقةً صادقاً وقال القضاعي في مسند الشهاب: محمّد بن زكريا الغلابي رجل حديثه حسن ولو جاز الأخذ بقول الدارقطنيّ في الغلابي لجاز الأخذ بتضعيفه أبا حنيفة في الحديث، ولا يجيزون الأخذ به البتّة، بل يردّونه عليه، ويعدّونه بغياً منه وإسرافاً، فكذا ينبغي طرح جرحه لمحمّد بن زكريّا، على أنّه لو صُدّق لم يجرِ في ما نحن فيه، لعدم انفراد الرجل بحديث الباب ـ كما عرفت ـولو سُلِّم قولهم بضعفه، فإنّ حديثه ـ بانفراده ـ يكون ضعيفاً، وهو وإن كان حُجّة في المناقب الأ أنّه يشتدّ ويعتضد بغيره من الأحاديث المتقدّمة، فترتقي بمجموعها إلى درجة الحسن ـ كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى
تتمّة وتنبيه:
يقوى في النفس ـ والله أعلم ـ اتّحاد محمّد بن زكريا الغلابي البصري مع محمّد بن زكريا الأنصاري، لوجوه:الأوّل: اتّحاد كنيتهما ـ كاسمهما ـ فقد كُنّي كلٌّ منهما في كتب الرجال بأبي جعفر الثاني: أنّ ابن مندة قال في الأنصاريّ: تُكُلّم في سماعه، وقد مرّ أنّه قال في الغلابي: تُكُلّم فيه؛ ولعلّه يعني سماعه الثالث: أنّهما سمعا عبد الله بن رجاء الغداني
الرابع: أنّ أبا الشيخ الأصبهاني روى عن الأنصاريّ، وأبا القاسم الطبرانيّ عن الغلابي ـ وأبو الشيخ والطبراني متعاصران ـ فإن ثبت ذلك، فاعلم: أنّ أبا نعيم قال في محمّد بن زكريّا الأنصاريّ: صاحب أُصول جياد صحاح فإن كان هو الغلابي فقد برىَ بهذا أيضاً من طعن الدارقطني، وإن كان طعنه باطلاً مردوداً في نفسه"