يوجد الناسخ والمنسوخ
لكي نقول بأن هناك ناسخ ومنسوخ بالمعنى المفهوم عند الجميع علينا أن نثبت ولو مرة واحدة أن هناك أحكام أوقفها الله واستبدلها بأحكام أخرى هي الفاعلة ، فإذا أثبتنا هذا واستخرجنا آية استبدل الله حكمها بحكم آخر فعلينا أن نقبل بالناسخ والمنسوخ سواء بهذا المصطلح أو مصطلح آخر كأن تقول الفاعل والموقوف أو أي مصطلح آخر ، المهم أن يصب في نفس الهدف ، وإليكم الآية التالية :
يقول سبحانه ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا ، نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ... ) هنا نجد الصلاة المفروضة مقدرة بما يقارب نصف الليل ، وهذا هو الحكم الذي أنزله الله وفرضه في بداية سورة المزمل .
وأنتقل الآن إلى ما نزل في نهاية سورة المزمل ، يقول الله فيها ( ... إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه ، وطائفة من الذين معك ، والله يقدر الليل والنهار ، علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرأوا ما تيسر من القرآن ، علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ، فاقرأوا ما تيسر منه ... ) إن الله بين لنا بأن الحكم الذي أنزله الله في بداية السورة قد عمل به المؤمنون فترة من الزمن ، وهذا واضح في قوله ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه ) أليس هذا هو الذي أنزله في بداية السورة ؟ ثم انظر كيف غيره الله بحكم آخر عندما قال ( علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرأوا ما تيسر من القرآن ) ألا ترون بأن الحكم قد تغير الآن ، فأين هو نصف الليل الذي كان مفروضا في بداية السورة ، ومن منكم يصلي نصف الليل فرضا يوميا ، فإما أنكم عاصون الله فلا تفعلون بما يأمركم به وإما أنكم تكذبون ، ثم فوق كل هذا فالله بين هنا سبب التغيير حين قال ( علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ، فاقرأوا ما تيسر منه ) إذن فالحكم الثقيل الذي نزل في البداية تغير بحكم خفيف في النهاية ، وإلا لكنا اليوم نصلي تلك الصلاة المفروضة في البداية ، إذن فقد جئنا بحكم استبدله الله بحكم آخر .
ــ وأنتقل الآن إلى الآيات المنسية
لنأخذ قضية القبلة مثلا والتي يقول الله فيها ( ... وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ... ) فالقبلة تغيرت ، والقبلة الحالية آيتها موجودة أما القبلة الأولى فآيتها غير موجودة وهذا يعني أنها حذفت ، ونفس الشيء بالنسبة للجماع ليلة الصيام ، فالجماع كان محرما ثم غير الله حكمه وجعله حلالا ، الآية ( ... علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ، فالآن باشروهن ... ) فهذا حكم تغير من حرام إلى حلال ، فحكم الحلال موجود وأما حكم الحرام فغير موجود ، وهذا يعني أنه حذف .
ــ لنأخذ قضية الزنى ، يقول الله سبحانه ( ... واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ... ) هذا الحكم هو الذي كان يعمل به ، فاستبدل بحكم الجلد ، وآية الجلد معروفة وهي الفاعلة ، إذن هناك أحكام تغيرت وأخرى توقفت وهذا ما يسمى بالناسخ والمنسوخ ، والله يقول ( ... وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر ، بل أكثرهم لا يعلمون ، قل نزله روح القدس من ربك بالحق ... ) فالآية التي استبدلت جاءت مكانها آية أخرى والذي يتلوها على الناس هو النبي ، لذا لما رأوا أن هناك استبدال في الآيات ظنوا أن النبي هو الذي يفعل هذا من عنده فرموه بالافتراء معاذ الله ، وهو قولهم ( إنما أنت مفتر ) فرد الله عليهم بقوله ( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ) فالكلام عن القرآن وليس عن آيات حسية ، وإليك الكلام من البداية ، يقول الله سبحانه
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ{98} إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ{99} إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ{100} وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ{101} قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ{102} وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ{103} إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{104} إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ{105}
تأمل جيدا هذا المقطع ، فهو يتكلم عن القرآن من البداية إلى النهاية ، فالبداية هي ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الجيم ) فالكلام عن القرآن ، وفي نفس السياق يقول الله ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ) فالآية هنا هي آية من القرآن وليس آية كونية ، وفي نفس السياق يواصل الله قوله فيقول ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ) ردا على قولهم ( إنما أنت مفتر ) وفي نفس السياق أي لا زال الكلام عن القرآن ، ولقد رموا النبي بفرية أخرى ، يقول الله عنهم ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) وكلمة ( إنما يعمه ) و ( وقل نزله ) فالهاء في هذه الكلمات كلها تعود على القرآن ، وبما أنهم رموا النبي بالافتراء فالآية في آخر المقطع جاءت تقول ( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) فالذي يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن بآيات الله ، أي آيات الله القرآنية ، ( وإولئك هم الكاذبون ) وكلمة ( أولئك هم ) تنفي أن النبي هو الذي يكذب وتنسب الكذب إليهم هم ، أي هم الذين يكذبون وليس النبي ، وهذا ردا على قولهم ( إنما أنت مفتر ) وهذا يعني ان الافتراء والكذب الذي تتكلم عنه هذه الآيات هو عن آيات القرآن وليس عن آيات حسية ، إذن فالمقطع كله يتكلم عن القرآن وعليك أن تعيد قراءته مرة أخرى وتمعن جيدا فيه ، وهذا الجزء يحكم قطعا على تبديل الآيات ، ومن أراد النقاش فلنناقش هذا الجزء بالذات وآيات الصلاة في المزمل ولا نتكلم عن شيء آخر .
والذي يهم في كل هذا أن هناك استبدال لبعض الآيات والأحكام بغض النظر عن كلمة نسخ ماذا تعني ، وإن كان معناها في الكتاب هو الإلغاء أو الحذف ، وأما نسخ بمعنى كتب فهو مستخرج من اللغة الشعبية التي نتعامل بها وليس لغة القرآن الذي هو اللغة العربية الأصلية والحقيقية ، فكلمة نسخ في لغة القرآن لا تعني كتب بل ألغى أو حذف والذي يعني كتب في لغة القرآن هو كلمة [ استنسخ ] وليس [ نسخ ] الآية ( ... هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ... ) فكلمة استنسخ هي التي تعني الكتابة وأما نسخ تعني الإلغاء ، الآية ( ... ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ... ) وهذه الآية تطابق تماما ما قيل سابقا من استبدال للأحكام .
وإذا كان من يستغرب ويقول كيف بكلمة لها نفس المشتق وهي تحمل الضدين في المعنى ، فأقول له اقرأ قوله تعالى( ... وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ... ) فالظن في هذه الآية يعني الشك ، وإليك آية أخرى يقول سبحانه ( ... واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ، الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ... ) وانظر إلى الظن في هذه الآية فهو يعني اليقين وليس الشك ، إذن فكلمة الظن تعني الضدين الشك واليقين ، وحسب الآية يعرف معناها .
وأما من يستغرب ويقول كيف يبدل الله أحكامه أو كيف يبدل آياته فأقول له إن الله بدل كتبا بكاملها وليس بعض الآيات ، فأين هو التوراة والإنجيل ، وأين هي الكتب الأولى التي أنزلها الله على الأمم السابقة ، وحتى اسماؤها لم تذكر ناهيك عن محتوياتها .
أرجو أن ينقل هذا الموضوع إلى موقع أهل القرآن .
الكاتب : بنور صالح