اللغة والتشريع
1 ) تعريف بسيط
إن اللغة بكل بساطة هي وسيلة للتخاطب لا أقل ولا أكثر .
2 ) منشؤها
اللغة تنشأ بوجود ضرورة التخاطب ، فلو أخذنا طفلا من الصين وطفلا من العالم الغربي وطفلا من الجزيرة العربية وجعلناهم في بلد خال من السكان فضرورة التخاطب بينهم تنشئ لديهم لغة جديدة غير موجودة في التاريخ يفهونها هم فقط وهذه آية من آيات الله وذلك قوله عز وجل ( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ) ، لو تزوج الأشخاص الثلاث وجاؤوا بنساء من مناطق مختلفة ، واحدة من الهند ، وأخرى من روسيا ، وأخرى من الهنود الحمر ، فاللغة المنشأة يدخل عليها تعديل بضرورة التخاطب الجديد ، فتبدأ في التمدد لتأخذ شكلا آخر مع الوقت لتصبح في زمن ما لغة أخرى غير اللغة المنشأة في البداية ، وتلك لغة ثانية وهذه آية من آيات الله
[ وهذه الخاصية توجد عند الإنسان ولا توجد عند الحيوان ، فالحيوانات الموجودة في السرك بقيت منعزلة بأصواتها ] هذه معلومة بتحفظ ، هذه النبذة الخفيفة عن منشأ اللغة فقط للتوضيح بأن اللغة ليست إلا وسيلة للتخاطب يمكن حدوثها في أي وقت ولا يقال عنها أنها صحيحة ولا خاطئة ، فهي كلها عبارة عن مصطلحات تعبيرية ، فوجود المجتمع مهما كان مصغرا يتطلب حتما وجود اللغة ، فإن لم تكن موجودة تبتكر .
3 ) العوامل المؤثرة في اللغة
العوامل المؤثرة في اللغة كثيرة وأذكر من أهما ، عامل الزمان ، عامل احتكاك اللغات ، العامل الحضاري
ــ عامل الحضارة
إن التغير الحضاري تقدما وتأخرا يؤثر في اللغة بإدخال مصطلحات تعبيرية جديدة وخصوصا التحديث الصناعي من مرئيات وسمعيات وبصريات وملموسات وغير ملموسات والكثير الكثير من المحدثات كل ذلك يؤثر في اللغة بإثرائها
وظهور المسميات مما يجعل اللغة في تمدد مستمر ، وكذلك يختفي العديد من الكلمات التي لها صلة بالأشياء التي انعدم استعمالها وبالتالي هناك كلمات تظهر في الوجود وكلمات تختفي ، فتظهر الكلمات المتعلقة بآلة الحصاد وتختفي الكلمات المرتبطة بالمنجل مثلا ، وقس على ذلك في جميع الأشياء .
ــ عامل احتكاك اللغات
فالعلاقات الإجتماعية من زواج وسياحة وتبادل تجاري وغير ذلك من العلاقات كل ذلك يؤثر في اللغة بسبب احتكاكها باللغات الأخرى ، فإذا كان الناس قديما يصدرون ويستوردون منتوجاتهم من بلدانهم إلى بلدان أخرى وتأخذ الرحلة زمنا طويلا فهم بالتالي دون قصد ودون أن يعبأوا فهم يصدرون ويستوردون كلاما جديدا يدخلونه في مجتمعاتهم ، فهذه الممارسات تجعل اللغات تحتك في ما بينها فتؤثر الواحدة في الأخرى فيقع بعض التبادل اللغوي الذي يحمل أثره بعد العودة من هذه الرحلات ، فما من لغة على الأرض إلا وتجد فيها الكثير من الكلام دخيل عليها ، واللغة العربية ما هي إلا لغة كغيرها من اللغات ، ولنأخذ مثلا كلمة [ قنطار ] في القرآن فهي مقدار يستعمل في الأوزان لقوله عز وجل ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) فنفس الكلمة تجدها في اللغة الفرنسية [ quintal ] وتنطق [ كنطال ] نفس النطق تقريبا ، وهو يحمل نفس المعنى أيضا أي أنه مقدار يستعمل في الأوزان في الفرنسية ، فهل هذه الكلمة جاءت من الفرنسية إلى العربية ، أم العكس أم جاءت إليهما من لغة أخرى ، كل هذا لا يمكن الفصل فيه بسهولة وقد يدخل في علم الغيب لأنه يتطلب معطيات كثيرة جلها يرتكز على الغيب ، فلو تتبعت اللغة العربية كلها وقارنت كل كلمة مع الكلمات الوجودة في كل اللغات لأكتسفت أن هناك الكثير من الكلمات التي لها صلة بلغات أخرى وذلك ناتج عن تداخل اللغات عن طريق الإحتكاك والذي مر عبر العلاقات الإجتماعية الممارسة عبر التاريخ واحتكاك اللغات في ما بينها ، وهذا ينطبق على جميع اللغات ، فلا يوجد في العالم لغة خالية من الكلام الدخيل عليها ، فاحتكاك اللغات على حدود البلدان جغرافيا يجعل اللغة وسط البلاد تختلف عن جنوبها وشمالها ، واللغة تختلف وتتميزأكثر بين الشمال والجنوب ، وقد يدخل التغيير على الكلمات فيستبدل معناها ويحتفظ بنطقها ، وقد يحتفظ بنطقها ويستبدل معناها ، وكل هذا وذاك وارد في جميع اللغات .
ــ عامل الزمان
إن اللغة تتدحرج عبر الزمان ، فالتغيرات السابقة التي تطرأ على اللغة وبفعل التراكم يتغير مسارها عبر الزمان ، فمكة اليوم هي مكة الت ينزل فيها القرآن ، بينما أهل مكة اليوم هم أعاجم بالنسبة للغة القرآن التي هي لغة قريش أيام نزول القرآن ، فكل هذا ناتج عن التغيرات المتراكمة عبر الزمان .
4 ) اللغة وعلاقتها بالكتابة
إن الكتابة لم تلق تطورا كبيرا عبر التاريخ لقلة احتياج الناس لها ، فالناس لا يحتاجون الكتابة إلا نادرا في بعض المناسبات والتي تتركهم إن اضطروا يلجأون للمتخصصين بها ، وكلما رجعنا في التاريخ إلى الوراء كانت هذه الحقيقة أكثر انتشارا في كل المجتمعات ، وقد تجد القرية و لا يوجد فيها كاتبا واحدا ، وقد تجد القرى ولا تجد فيها كاتبا واحدا ، فالرسالة التي أنزلها الله علينا تعتمد فقط على النطق والسمع وذلك قوله عز وجل ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) فالذي أنزله الله قولا وتلقاه النبي بالسمع ، ولا بد أن نعلم بأن الله يوجه كلامه لجميع الناس وليفهمه الجميع ، والأغلبية الساحقة إن لم أقل كلها لا تعرف الكتابة ، والذي يعرفه الجميع ويفهمه الجميع هو الكلام المنطوق المسموع ، فكلام الله كان يعرض عليهم منطوقا ليتلقونه عن طريق السمع مسموعا كما يتعاملون به في ما بينهم تماما ، والكتابة لم تأت مبتكرة بين عشية وضحاها ، بل راحت ترتقي عبر الأزمان من شكل ورسم حسن إلى ما هو أحسن ، وقد تجدها تقترب وتبتعد في الشكل في ما بينها من منطقة وأخرى ومن زمان إلى زمان آخر ، والكتابة برسومها وشكلها أيام نزول القرآن لم تكن وليدة من يومها بل كان كل ذلك ما أفرزته المنطقة من تراكم الإرتقاء عبر تاريخها ، فالكتابة كانت تهدف لحفظ ما ينطق به اللسان كقوله عز وجل ( وإذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ، وليكتب بينكم كاتب بالعدل ، ولا يأب كاتب أن يكتب بما علمه الله ، فليكتب ، وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس من شيئا ... ) فلآية توضح أن أحد يملل والآخر يكتب ، أي أن الكاتب عليه أن يقوم بتحويل النطق إلى كتابة ، ومن ثم يحفظ النطق بحفظ الكتابة لتنقل من مكان لآخر ومن زمان لآخر ، وهنا ينتهي دور الكتابة ، وبما أن الرسالة يجب نقلها من مكان لآخر ومن زمان لآخر كانت هي أولى ما يعنى بها في الكتابة لتكون في كتاب ، وذلك هو المصحف الكريم .
5 ) مثبتات اللغة
تعتبر القواميس والكتب المقدسة هي المثبتات الأساسية لللغة ، فلما ظهر التعليم بشكل واسع أي أصبح الناس يذهبون للمداس لتعلم العلوم كان من الضروري ترسيم اللغات لتكون هي اللغات الأساس في التعليم ، ومن ثم يستوجب هذا النظام تثبيت اللغات عبر الزمان والمكان فستقرار نظام التعليم وكان لا بد من مثبتات لللغات وهذا من الأسباب التي مهدت الطريق لظهور القواميس ، فالقواميس تنشأ لتثبيت ما هو موجود قبلها من لغات وهي تعتمد في بحثها على ما هو موجود بين يديها من مأثور مسموع ومنطوق ومكتوب ، وقد تغوص في التاريخ كثيرا للبحث عن ما هو مفقود ، والسؤال المطروح أي لغة ثبتها القاموس ؟ علما أن اللغة تتغير من زمان لآخر ومن مكان لآخر ، فاللغة في زمن ما وفي مكان ما تختلف جزئيا أو كليا لزمان آخر بعيد ولمكان آخر بعيد ، فالبعد الزمني والمكاني يغير مسار اللغة تماما لتأخذ بعض الإستقلالية وهي تتقدم في الزمان والمكان ، فإذا غاص الباحث صاحب القاموس في التاريخ أكثر فهو يجمع عدة لغات عبر الزمان وليس لغة واحدة كما يتوهم اللغويون ، وبالتالي فالقاموس لا يعكس لغة معينة بل هو عبارة عن تراكمات لغوية تتغير فيها المفاهيم والمصطلحات والمسميات وكل الإحتمالات واردة ومبررة ، والتراكمات اللغوية التي تحملها القواميس في طياتها تعتبر في حد ذاتها لغة تبتعد وتقترب من اللغة التي تطلب البحث عنها ، إذن فلغة القاموس هي لغة القاموس ، ومادام قد تم الإتفاق عليها فكل ما تسمى به ما هو إلا اصطلاح تم الإتفاق عليه ، فالقاموس الإنجليزي مثلا هو قاموس اللغة الإنجليزية اصطلاحا ولا يعبر عن حقيقة اللغة الإنجليزية ، وأي أنجليزية ، بالنسبة لأي زمان وأي مكان ، فاللغات تجدها دائما تتابع تغيراتها عبر الزمان والمكان ، ولذا لما ظهرت المثبتات لتدرس رسميا في التعليم وبقي الناس على طبيعتهم يمارسون الكلام يوميا والذي من شأنه يصنع اللغات ظهر إلى جنب اللغات الرسمية لغات أخرى يمارسها الشارع في حياته اليومية وأصبح الفرق واضح بينهما ، فما يتكلم به البشر ليس هو الذي يعد رسميا في بلادهم
وقد تجد الكثير لا يعرف النطق بلغاتهم الرسمية المثبتة ، وللتفريق بين اللغات المثبتة واللغات المستعملة في الحياة اليومية سميت هذه الأخيرة باللهجات وسميت بالدارجة تعبيرا عنها بأنها غير رسمية يس إلا ، وكل الجتمعات مهما كانت حضارية ومتطورة إلا وتجد عندها هذه اللهجات وهي في الحقيقة لغات مثلها مثل أي لغة تدريسية ، وإذا كانت القواميس تصلح كلغة لتدريس العلوم كلها فقد تصلح لتكون مدخلا لتعلم لغة التشريع ولا يمكن ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن تكون حجة في التشريع ولا أداة لتفسير التشريع ، علما أن يوم ولادتها في أي زمان كان ، توجب عليها ان تحفر في التاريخ وتغوص في الأعماق لتصل في النهاية إلى المأثور الموثوق الأصلي الوحيد الذي يعكس لقة قريش وهو القرآن الكريم ، وهذا هو المثبت الوحيد للغة قريش والذي يضم القسط الكبير من لغة القوم وبالتالي هو المثبت الوحيد لللغة العربية الأصلية أيام نزول القرآن ، وهذا المثبت أي القرآن هو الذي ثبت اللغة العربية لتبقى موجودة عبر الزمان مع دخول التغيرات عليها طبعا ، فالشعوب العربية جلها كانت عبر الزمان ترجع إليه وذلك لعلاقتها الدينية به ، فالناس تقرأه يوميا في صلاتها وهذا يكفي لتثبيت قسطا لا بأس به في اللغة العربية ، فما هو موجود من كلام عند الشعوب العربية سواء كان ذلك في اللغة العربية الرسمية أو اللهجات العربية كل ذلك بفضل الله وبفضل هذه المثبت الكبير الذي هو القرآن الكريم ، فالرأس ، والعين ، والأنف ، والأذن ، ... كل هذه الكلمات تجدها ينطق بها عند الشعوب العربية كلها وهذه الكلمات ثبتها القرآن الكريم ، ولو لم يكن القرآن موجود لوجدت أولا هذه الشعوب قد اختلفت في هذه الكلمات عبر الزمان ، وثانيا قد لا تجد للعربية شيئا منها عى الإطلاق ولوجدت الناس يتكلمون لغات أخرى تماما ، إذن فلا مجال لتفسير القرآن ولا لفهمه باستعمال اللغة العربية الرسمية ولا باستعمال القاموس بل الذي يجب هو العكس تماما ، أي يجب تصحيح هذه القواميس العربية ، وتصحيح اللغة العربية الرسمية ، وتصحيح اللهجات إن أمكن ذلك أيضا ، فالأصل هو الذي القرآن هو الذي يصحح هذه المراجع ويقول لنا إن كان ما نتكلم به صحيحا أم خاطئا وما هو الصحيح ، إذن فالقرآن هو المأثور الوحيد للغة قريش لغة نزول القرآن أيام نزوله ، والقرآن هو المثبت الوحيد لللغة العربية ، وهو المرجع لنفسه في تفسير وفهم القرآن .
فالرسالة عندما تنزل من عند الله تنزل بلغة القوم أي بما يسمى اللهجة أو الدارجة ، ولا تنزل أبدا باللغة الرسمية إذ لم يكن لهذه الأخيرة وجود آنذاك ، فأيام نزول القرآن لم يكن هناك لغتين رسمية ولهجة أو دارجة ، بل كانت لغة واحدة هي التي يسمونها اليوم اللهجة أو الدارجة ، فتلك هي اللغة الوحيدة التي كانت موجودة أيام نزول القرآن والتي نزل بها ، تلك هي اللغة التي كان يتكلم الكبير والصغير ، والمرأة والرجل ، في الشارع والبيت ، لغة ، لهجة ، دارجة ، سميها كما تشاء تلك هي اللغة الوحيدة التي كانوا يتكلمون بها لا ثاني لها ، وبالتالي فالقرآن لغتهم لم يكن يشكل أي عقبة في فهم ما يقول
وقد يصل فهمه إلى الغلمان ، فلا حجة إذن لمن ينسب للقرآن الغموض ليحل ما رآه غامضا بصنع تشريع على التوازي مع القرآن ، ومن ثم يبحث عن تزكيته بنسبه لله والرسول زورا وبهتانا ، فالجانب الكبير من الغموض يعود للتغيرات الطبيعية التي طرأت على اللغة الأصل التي نزل بها القرآن وهي تتدرج عبر الزمان لتصل بنا بعد القرون المتتالية إلى لغة نتلكم بها تختلف كثيرا عن اللغة الأصل ، فالجانب الكبير من الغموض يعود لهذا الفارق بين اللغتين ، ولإزالة هذا الجانب الكبير يجب على الأمة أن تتعلم لغة القرآن وليس اللغة العربية الرسمية الحالية ولا هذه اللهجات العربية ولا العودة للقواميس ، كل ذلك لا يزيل هذا الغموض ، وقد يخفف من حدته فقط .
قد أتابع هذا الموضوع بالإضافة عليه إن وفقني الله في الوقت .
وهذه خلاصة أولية
ــ القرآن هو المأثور الوحيد الذي يعبر عن اللغة العربية الأصلية في ممارسة التشريع
ــ القرآن هو الذي تصحح به القواميس وكل ما يقال عن اللغة العربية ، فلو كان غير موجودا ما كان للقواميس أن تلقى لها وجودا على ما هي عليه اليوم ، وهو الذي كان مصدرا ومرجعا أيام ولادتها ، فلا يمكن للمولود أن يحكم على الوالد .
ــ لغة القرآن هي لغة قريش في الشارع والبيت ، وكانوا يفهمونه كما نفهم نحن لهجاتنا اليوم ، فلا غموض فيه لغويا .
ــ الكتابة لم تكن وليدة عهد مع نزل القرآن بل كانت موجودة قبل نزوله شانها شأن كتابات الشعوب الأخرى ، فرسومها التي رسم به القرآن ليست منزولة ، فلا يجوز إقحامها في التشريع .
ــ المنهجية في فهم القرآن هي نفس المنهجية التي كان يفهم بها قريش أيام نزول القرآن ، فالنطق والسمع كفيلان بذلك ، فالمطلوب منا فقط أن نتعلم لغة قريش ، وهذا ما كان يتطلب ذلك الوقت ، لم يكن يتطلب منهم شيئا آخر ، فعلينا أن نكون مثل القوم وذلك يعني أن نتعلم لغتهم ، وهذا كاف جدا لمعرفة كل ما يريده الله منا ، دون أي تعقيد .
ــ القرآن هو المرجع الوحيد لنفسه في فهمه وتفسيره .
الكاتب : بنر صالح
آخر تعديل bennour يوم 08-08-08 في 19:47.