نقد كتاب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم معان ، وفوائد ، وأحكام
الكتاب تأليف إسلام منصور عبد الحميد وهو يدور حول الاستعاذة وفى مقدمته قال :
"هذه هي رسالة في معان وفوائد وأحكام الاستعاذة ، وهي جزء من مشروع كتاب في التفسير سميته ( فتح الوهاب بمعان وفوائد وأحكام كلام رب العباد ) وسأبذل جهدي بإذن الله – سبحانه وتعالى - أن تتابع هذه الرسائل الواحدة ردف الأخرى حتى يكتمل الكتاب بأخر سورة في القرآن ، سورة الناس ومنهجي في هذا الكتاب يفهم من خلال عنوانه ، فسأعرض فيه الآية ، ثم معاني المفردات ، ثم المعني الإجمالي ، ثم الفوائد والعبر ، ثم الأحكام الشرعية المتعلقة بالآية وقد يقول قارئ هذه الرسالة بعد قراءتها : أنك لم تتعرض لمباحث كثيرة في الاستعاذة ، كأوقات الاستعاذة وأنواعها ، أو أنني لم أذكر بعض الأحكام العقدية كالاستعاذة من الجن فأقول :- أن المقصود بالاستعاذة التي في أول القراءة هي قولك " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وهذا ليس له علاقة بأنواع الاستعاذة وأوقاتها ، ومما يدل على ذلك أنني ما وجدت أحدا ذكر هذه المباحث في كتب التفسير مما وقفت عليه في هذا الموطن ، وإنما ذكروه في مكانه ، كما في سورة الأحقاف ، والجن وغيرها من المواطن "
كعادة الفقهاء ومن يدرسون الفقه إلا ما رحم الله نجد المؤلف يلجأ إلى كتب اللغة لبيان معانى الألفاظ القرآنية وهو توجه خاطىء فلا تفسير لكلام الله إلا بكلام الله نفسه ومن ثم نقل الرجل من بطون الكتب فى معانى كلمات الاستعاذة التالى:
"أولا : معاني المفردات:
تأويل قوله: (أعوذ):
(عوذ) العين والواو والذال أصل صحيح يدل على الالتجاء إلى الشيء، ثم يحمل عليه كل شيء لصق بشيء أو لازمه فقوله: «أعوذ» مشتق من العوذ، وله معنيان : أحدهما : الالتجاء والاستجارة ، والتحيز إلى الشيء، على معنى الامتناع به من المكروه ومن الأمثلة العربية التي تشهد لهذا المعنى :
1- يقال: عذت بفلان واستعذت به؛ أي لجأت إليه ، وهو عياذي؛ أي ملجئي
2- وفي حديث حذيفة: تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودا ، عودا بالدال ، قال ابن الأثير: وروي بالذال المعجمة
قال ابن سراج : ومن رواه بالذال المعجمة فمعناه سؤال الاستعاذة منها كما يقال غفرا غفرا , وغفرانك أي نسألك أن تعيذنا من ذلك , وأن تغفر لنا والله أعلم كأنه استعاذ من الفتن
• والثاني: الالتصاق
ومن الأمثلة العربية التي تشهد لهذا المعنى :
1- يقال: «أطيب اللحم عوذه» وهو ما التصق منه بالعظم ، قال ثعلب: قلت لأعرابي: ما أطيب اللحم؟ قال: عوذه
2- ويقولون لكل أنثى إذا وضعت: عائذ وتكون كذا سبعة أيام ، وإنما سميت لما ذكرناه من ملازمة ولدها إياها، أو ملازمتها إياه
3- وناقة عائذ: عاذ بها ولدها
4- ومعوذ الفرس: موضع القلادة
تأويل قوله: من الشيطان الشيطان واحد الشياطين وله ثلاثة معان أولها وهو أصحها : البعيد مشتق من شطن إذا بعد فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر وبعيد بفسقه عن كل خير ومما يدل على ذلك من كلام العرب
1- شطنت داري من دارك - يريد بذلك: بعدت
2- ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان:
نأت بسعاد عنك نوى شطون فبانت, والفؤاد بها رهين
3- وبئر شطون أي : بعيدة القعر
4- والشطن: الحبل؛ سمي به لبعد طرفيه وامتداده
الثاني : المتمرد ، وهو قريب من الأول ، بل إن البعض يقرن بينهما
قال الطبري : والشيطان، في كلام العرب: كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء ، وإنما سمي المتمرد من كل شيء شيطانا، لمفارقة أخلاقه وأفعاله أخلاق سائر جنسه وأفعاله، وبعده من الخير
ومما يستدل به على هذا المعنى :
1- قول الله تعالى(وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) فجعل من الإنس شياطين ، مثل الذي جعل من الجن
2- وفي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر قال : قال رسول الله (ص) يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن " فقلت أللإنس شياطين ؟ قال " نعم
قلت فيه القاسم أبو عبد الرحمن ، قال العجلي : ثقة يكتب حديثه وليس بالقوي وفيه علي بن زيد ، ضعفه الإمام أحمد ، ويحيي بن معين ، والبخاري وأبو زرعة ، وأبو حاتم ، والنسائى وفيه معان بن رفاعة ، ضعفه بن معين وأخرجه النسائي في ( الاستعاذة / بـ الاستعاذة من شر شياطين الإنس ) من حديث أبي ذر قلت :وفيه عبيد بن خشخاش ، ضعفه الدارقطني وفيه أبو عمر الدمشقي ، قال الدارقطني : متروك ، وقال الذهبي : واه وفيه عبد الرحمن المسعودي ، اختلط بآخره ، كما قال ذلك الإمام أحمد ، وابن نمير ، وابن عمار ، ومحمد بن سعد وقد ضعفه الشيخ الألباني في ( ضعيف النسائي / ح 424 )
قلت : وكذلك مما يدل على ضعفة نكارة متنه ، إذ كيف يجهل حذيفة أن للإنس شياطين ، وقد جاء القرآن مصرحا بذلك ، وكان حذيفة يحرص على تعلم الشر مخافة أن يدركه ومع ضع هذا الحديث فالأدلة على أن للإنس شياطين من السنة الصحيحة كثيرة جدا ، ولكني أقتصر على الآية ، والتبيه على ضعف الحديث لشهرته
3- وعن عمر بن الخطاب أنه ركب برذونا فجعل يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترا فنزل عنه وقال ما حملتموني إلا على شيطان ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي إسناده صحيح فقولك "من الشيطان" أي: من كل عات متمرد من الجن والإنس، يصرفني عن طاعة ربي، وتلاوة كتابه
• الثالث : من الاحتراق مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار أو مأخوذ من شاط يشيط إذا هلك، وشاط إذا احترق ، وشيطت اللحم إذا دخنت ولم تنضج ، واشتاط الرجل إذا احتد غضبا ، واشتاط إذا هلك ؛ قال الأعشى:
قد نخضب العير من مكنون فائله وقد يشيط على أرماحنا البطل
الرد على من قال أنه من الاحتراق :
1- قول أمية ابن أبي الصلت:
أيما شاطن عصاه عكاه ثم يلقى في السجن والأكبال
ولو كان فعلان، من شاط يشيط، لقال أيما شائط، ولكنه قال: أيما شاطن، لأنه من "شطن يشطن، فهو شاطن"
2- وقال سيبويه العرب : تقول تشيطن فلان إذا فعل فعل الشياطين ولو كان من شاط لقالوا تشيط
فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح ولهذا يسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطانا ومنهم من يقول أن الكل صحيح في المعنى
تأويل قوله: (الرجيم)
الرجيم : فعيل بمعنى مفعول، كقول القائل: كف خضيب، ولحية دهين، ورجل لعين، يريد بذلك: مخضوبة ومدهونة وملعون وله ثلاثة معان
• الأول : الرمي ، وهو أصحها ، فـ أصل الرجم الرمي، بقول كان أو بفعل ومن الرجم بالقول قول أبي إبراهيم لإبراهيم (ص) : ( لئن لم تنته لأرجمنك ) ، ومن الرجم بالفعل قول قوم نوح قوله تعالى: ( لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين)
• الثاني : الملعون والمشتوم : وكل مشتوم بقول رديء أو سب فهو مرجوم
• الثالث : الطرد : فـالرجيم : أي: المطرود من رحمة الله وعن الخير كله لأن الله جل ثناؤه طرده من سمواته ، ورجمه بالشهب الثواقب كما قال تعالى ( ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) وقال تعالى ( إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد) لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب) وقال تعالى ( ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم) إلى غير ذلك من الآيات وقريب منه ما ذكره القرطبي في المعنى الرابع والأول أشهر وأصح "
تناول الرجل المعانى اللغوية ورد على على بعضها وهو كلام لن يستفيد المسلم منه أى شىء فالمسلم يجب أن يعرف المعنى القرآنى وليس المعنى اللغوى ففائدة الكتب هى التعليم والإنسان العادى لا علاقة له بتلك اللغويات ولا تهمه وإنما هى تزيد حيرته فوظيفة العالم هى توصيل الحكم مباشرة بدون لف أو دوران
وبعد ذلك تعرض إسلام لمعنى الاستعاذة فى القرآن فقال :
"ثانيا :معنى قول القائل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قال الله تعالى : (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) وقال تعالى (ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون) وقال تعالى ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم)
فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها وهو :
أن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه ليرده عنه إلى طبعه الطيب الأصل إلى الموالاة والمصافاة ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة إذ لا يقبل مصانعة ولا إحسانا ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل كما قال تعالى : ( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة) وقال تعالى ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) وقال ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) وقد أقسم للوالد آدم عليه السلام أنه له لمن الناصحين وكذب فكيف معاملته لنا وقد قال ( قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين)
فـ معنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أستجير بجناب الله - دون غيره من سائر خلقه - من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي أو يصدني عن فعل ما أمرت به أو يحثني على فعل ما نهيت عنه فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله ولهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل لأنه شرير بالطبع ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه
الفرق بينها وبين اللياذة
والعياذة تكون لدفع الشر واللياذ يكون لطلب جلب الخير كما قاله المتنبي
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به ممن أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يهيضون عظما أنت جابره "
الأخطاء فى الفقرة هى :
ألأول أن معنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أستجير بجناب الله - دون غيره من سائر خلقه - من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي أو يصدني عن فعل ما أمرت به أو يحثني على فعل ما نهيت عنه وهو كلام خاطىء لأن الاستعاذة الكلامية تكون قبل النزغ وهو الوسوسة والآيات تتحدث عن العمل بعد النزغ وهو الوسوسة كما فى الجملة"وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله" ومن ثم فالمراد ليس الاستعاذة الكلامية وإنما المراد طاعة الله فى ألأحكام التى تزيل ما ترتب على عمل النزغ وهو الوسوسة ومن ثم فالاستعاذة هى تعنى الاستغفار أى التوبة إلى الله وهو تذكر الله أى العودة إلى البصر وهو الحق كما قال تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون"
ومن ثم فالاستعاذة بعد عمل النزغ تعنى الاحتماء بطاعة الله بالتوبة والاستمرار في طاعة أحكام الله الأخرى
ومن ثم فلا علاقة للاستعاذة الكلامية وهى قول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
ثم قال :
"ثالثا : الفوائد والعبر من الاستعاذة :
1- الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تمهيد للجو الذي يتلى فيه كتاب الله وتطهير له من الوسوسة واتجاه بالمشاعر إلى الله خالصة لا يشغلها شاغل من عالم الرجس والشر الذي يمثله الشيطان
2- الرد على مذهب الجبرية والقدرية ، فلو كان الإنسان مجبورا ما أمر بالاستعاذة ، ولو كان هو الذي يخلق أفعاله لأعاذ نفسه بدون مستعيذ ، لكن الإنسان له إرادة ومشيئة لا تنفذ إلا بإرادة الله ومشيئته سبحانه وتعالى
3- وجود والشياطين وأن لهم حقيقة ، فلولا أن للشياطين حقيقة ما أمر الله بالستعاذة منهم
4- تسلط الجن على الإنس ، وأنهم ممكنون من ذلك ولكن ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)
5- توثيق الصلة بالله : فالذين يتوجهون إلى الله وحده ويخلصون قلوبهم لله لا يملك الشيطان أن يسيطر عليهم مهما وسوس لهم فإن صلتهم بالله تعصمهم أن ينساقوا معه وينقادوا إليه وقد يخطئون لكنهم لا يستسلمون فيطردون الشيطان عنهم ويثوبون إلى ربهم من قريب
6- حاجتنا التامة إلى الله ، فلولا الاحتياج غليه لما كان في الاستعاذة فائدة
7- الإقرار بالفقر التام للعبد ، والغنى التام لله سبحانه وتعالى ، فقولك: (بالله) إشارة إلى الغني التام للحق، وقول العبد (أعوذ) إقرار على نفسه بالفقر والحاجة
8- الإقرار بقدرة الحق سبحانه وتعالى على جلب النفع وتحصيل الخير ودفع الضر ، فقولك: (بالله) إقرار بأن الحق قادر على تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات
9- أن غير الله غير موصوف بهذه الصفة فلا دافع للحاجات إلا هو، ولا معطي للخيرات إلا هو، فعند مشاهدة هذه الحالة يفر العبد من نفسه ومن كل شيء سوى الحق فيشاهد في هذا الفرار سر قوله:{ ففروا إلى الله }
10- أن قوله: (أعوذ بالله) اعتراف بعجز النفس وبقدرة الرب
11- لا وسيلة إلى القرب من الله إلا بالعجز والانكسار
12- أن الإقدام على الطاعات لا يتيسر إلا بعد الفرار من الشيطان، وذلك هو الاستعاذة بالله
13- أن أجل الأمور التي يلقي الشيطان وسوسته فيها قراءة القرآن، والصلاة ، لأن من قرأ القرآن ونوى به عبادة الرحمن وتفكر في وعده ووعيده وآياته وبيناته ازدادت رغبته في الطاعات ورهبته من المحرمات ، ومن خشع في صلاته فقد أفلح في الدنيا والآخرة ، فلهذا السبب صارت قراءة القرآن ، والصلاة من أعظم الطاعات، فلا جرم كان سعى الشيطان في الصد عنهما أبلغ، وكان احتياج العبد إلى من يصونه عن شر الشيطان أشد
14- الشيطان عدو الإنسان كما قال تعالى:{ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا }
15- الرحمن مولى الإنسان وخالقه ومصلح مهماته
16- قال تعالى:{ لا يمسه إلا المطهرون }فالقلب إذا تعلق بغير الله ، واللسان إذا جرى بذكر غير الله حصل فيه نوع من اللوث، فلا بد من استعمال الطهور، فلما قال: { أعوذ بالله } حصل الطهور، فعند ذلك يستعد للصلاة الحقيقية وهي ذكر الله تعالى فقال: { بسم الله}
17- لك عدوان أحدهما ظاهر والآخر باطن، وأنت مأمور بمحاربتهما قال تعالى في العدو الظاهر:{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } وقال في العدو الباطن:{ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا }فاطر: 6 فكأنه تعالى قال: إذا حاربت عدوك الظاهر كان مددك الملك، كما قال تعالى:{ يمددكم ربكم بخمسة ءالاف من الملئكة مسومين } وإذا حاربت عدوك الباطن كان مددك الملك كما قال تعالى:{ إن عبادى ليس لك عليهم سلطان }
18- محاربة العدو الباطن أولى من محاربة العدو الظاهر؛ لأن العدو الظاهر إن وجد فرصة ففي متاع الدنيا، والعدو الباطن إن وجد فرصة ففي الدين واليقين، وأيضا فالعدو الظاهر إن غلبنا كنا مأجورين، والعدو الباطن إن غلبنا كنا مفتونين، وأيضا فمن قتله العدو الظاهر كان شهيدا، ومن قتله العدو الباطن كان طريدا، فكان الاحتراز عن شر العدو الباطن أولى، وذلك لا يكون إلا بأن يقول الرجل بقلبه ولسانه (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)
19- كأنه تعالى يقول يا عبدي ، ما أنصفتني ، أتدري لأي شيء تكدر ما بيني وبين الشيطان ؟ إنه كان يعبدني مثل عبادة الملائكة، وكان في الظاهر مقرا بألوهيتي ، وإنما تكدر ما بيني وبينه لأني أمرته بالسجود لأبيك آدم فامتنع، فلما تكبر نفيته عن خدمتي،فعادى أباك، وامتنع من خدمتي، ثم إنه يعاديك منذ زمن وأنت تحبه، وهو يخالفك في كل الخيرات وأنت توافقه في كل المرادات، فأترك هذه الطريقة المذمومة وأظهر عداوته فقل : (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)
20- إن نظرت إلى قصة الشيطان مع أبيك آدم ، فإنه أقسم بأنه له من الناصحين، ثم كان عاقبة ذلك الأمر أنه سعى في إخراجه من الجنة، وأما في حقك فإنه أقسم بأنه يضلك ويغويك فقال : { فبعزتك لأغويتهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } فإذا كانت هذه معاملته مع من أقسم أنه ناصحه فكيف تكون معاملته مع من أقسم أنه يضله ويغويه
21- إنما قال: (أعوذ بالله) ولم يذكر اسما آخر، بل ذكر قوله (الله) لأن هذا الاسم أبلغ في كونه زاجرا عن المعاصي من سائر الأسماء والصفات لأن الإله هو المستحق للعبادة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان قادرا عليما حكيما فقوله: (أعوذ بالله) جار مجرى أن يقول أعوذ بالقادر العليم الحكيم، وهذه الصفات هي النهاية في الزجر، وذلك لأن السارق يعلم قدرة السلطان وقد يسرق ماله، لأن السارق عالم بأن ذلك السلطان وإن كان قادرا إلا أنه غير عالم، فالقدرة وحدها غير كافية في الزجر، بل لا بد معها من العلم، وأيضا فالقدرة والعلم لا يكفيان في حصول الزجر، لأن الملك إذا رأى منكرا إلا أنه لا ينهى عن المنكر لم يكن حضوره مانعا منه، أما إذا حصلت القدرة وحصل العلم وحصلت الحكمة المانعة من القبائح فههنا يحصل الزجر الكامل؛ فإذا قال العبد (أعوذ بالله) فكأنه قال: أعوذ بالقادر العليم الحكيم الذي لا يرضى بشيء من المنكرات فلا جرم يحصل الزجر التام
22- لما قال العبد (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) دل ذلك على أنه لا يرضى بأن يجاور الشيطان، وإنما لم يرض بذلك لأن الشيطان عاص، وعصيانه لا يضر هذا المسلم في الحقيقة، فإذا كان العبد لا يرضى بجوار العاصي فبأن لا يرضى بجوار عين المعصية أولى
23- الشيطان اسم، والرجيم صفة، ثم إنه تعالى لم يقتصر على الاسم بل ذكر الصفة فكأنه تعالى يقول إن هذا الشيطان بقي في الخدمة ألوفا من السنين فهل سمعت أنه ضرنا أو فعل ما يسوءنا؟ ثم إنا مع ذلك رجمناه حتى طردناه، وأما أنت فلو جلس هذا الشيطان معك لحظة واحدة لألقاك في النار الخالدة فكيف لا تشتغل بطرده ولعنه فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)
24- لقائل أن يقول: لم لم يقل: «أعوذ بالملائكة» مع أن أدون ملك من الملائكة يكفي في دفع الشيطان؟ فما السبب في أن جعل ذكر هذا الكلب في مقابلة ذكر الله تعالى؟ وجوابه كأنه تعالى يقول: عبدي إنه يراك وأنت لا تراه، بدليل قوله تعالى:{ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم }وإنما نفذ كيده فيكم لأنه يراكم وأنتم لا ترونه، فتمسكوا بمن يرى الشيطان ولا يراه الشيطان، وهو الله سبحانه وتعالى فقولوا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
25- أدخل الألف واللام في الشيطان ليكون تعريفا للجنس؛ لأن الشياطين كثيرة مرئية وغير مرئية، بل المرئي ربما كان أشد
26- الشيطان مأخوذ من «شطن» إذا بعد فحكم عليه بكونه بعيدا، وأما المطيع فقريب قال الله تعالى:{ واسجد واقترب } والله قريب منك قال الله تعالى:{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } وأما الرجيم فهو المرجوم بمعنى كونه مرميا بسهم اللعن والشقاوة وأما أنت فموصول بحبل السعادة قال الله تعالى: { وألزمهم كلمة التقوى } فدل هذا على أنه جعل الشيطان بعيدا مرجوما، وجعلك قريبا موصولا، ثم إنه تعالى أخبر أنه لا يجعل الشيطان الذي هو بعيد قريبا لأنه تعالى قال: { ولن تجد لسنة الله تحويلا }فاعرف أنه لما جعلك قريبا فإنه لا يطردك ولا يبعدك عن فضله ورحمته
27- كأنه تعالى يقول: إنه شيطان رجيم، وأنا رحمن رحيم، فابعد عن الشيطان الرجيم لتصل إلى الرحمن الرحيم
28- الشيطان عدوك، وأنت عنه غافل غائب، قال تعالى:{ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لاترونهم } فعلى هذا لك عدو غائب ولك حبيب غالب، لقوله تعالى: { والله غالب على أمره } فإذا قصدك العدو الغائب فافزع إلى الحبيب الغالب، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده
29- فرق بين أن يقال: «أعوذ بالله» وبين أن يقال: (بالله أعوذ) فإن الأول لا يفيد الحصر، والثاني: يفيده، فلم ورد الأمر بالأول دون الثاني مع أن الثاني أكمل وأيضا جاء قوله: «الحمد لله» وجاء قوله: «لله الحمد» وأما هنا فقد جاء «أعوذ بالله» وما جاء قوله «بالله أعوذ» فما الفرق؟
قوله: (أعوذ بالله) لفظه الخبر ومعناه الدعاء، والتقدير: اللهم أعذني، ألا ترى أنه قال: { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } كقوله: «أستغفر الله» أي اللهم أغفر لي، والدليل عليه أن قوله: { أعوذ بالله } إخبار عن فعل العبد ، وهذا القدر لا فائدة فيه إنما الفائدة في أن يعيذه الله، فما السبب في أنه قال: «أعوذ بالله» ولم يقل أعذني؟ والجواب أن بين الرب وبين العبد عهدا كما قال تعالى: { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم }وقال:{ وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم } فكأن العبد يقول أنا مع لؤم الإنسانية ونقص البشرية وفيت بعهد عبوديتي حيث قلت: «أعوذ بالله» فأنت مع نهاية الكرم وغاية الفضل والرحمة أولى بأن تفي بعهد الربوبية فتقول: إني أعيذك من الشيطان الرجيم"
كل ما ذكره الرجل من فوائد للاستعاذة كلام لن يستفيد منه المسلم عملا فكثرة الكلام عن الفوائد بلا خطوات عمل حقيقية للخروج من وسوسة الشيطان هو كلام فارغ فالاستعاذة الحقيقية لا تحتمل تسطير كل هذه الصفحات وإنما هى التالى:
الحماية التى أرادها الله للمسلم بعد النزغ وعمله هى :
التوبة من الذنب المرتكب والعودة لطاعة بقية الأحكام والتوبة تكون دوما بالاستغفار وقد تتطلب أمورا أخرى حسب الذنب المرتكب فمن أخذ حق احد يعيده ومن قتل يذهب لأهل القتيل للقصاص أو كى يعفو عنه
ثم تكلم الرجل عن أحكام الفقه المتعلقة بالاستعاذة فقال :
"رابعا : الأحكام الفقهية المتعلقة بالاستعاذة:
وهي ثلاثة عشر مسألة
المسألة الأولى : مشروعية الاستعاذة عند قراءة القرآن داخل الصلاة وخارجها لقول الله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (النحل:98)
قال الشوكاني :فلا شك أن الآية تدل على مشروعية الاستعاذة قبل قراءة القرآن وهي أعم من أن يكون القارئ خارج الصلاة أو داخلها "
كما قلت هناك فهم خاطىء للاستعاذة فالقوم اعتبروها مجرد ألفاظ تقال فهنا أوجبوا أو استحبوا قول اعوذ بالله من الشيطان الرجيم قبل القراءة مع أن الآية تطلب الاستعاذة بعد القراءة فقد ذكر الله القراءة أولا واتبعها بالاستعاذة ومن ثم فلا يوجد دليل على ما ذهبوا إليه ومن ثم فالمعنى أن يحتمى المسلم بطاعة حكم الله وهو سماع القرآن أى الإنصات له من وسوسة الكافر الملعون مصداق لقوله بسورة الأعراف"فإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ".
ثم قال:
"المسألة الثانية : حكم الاستعاذة ( هل هي واجبة أم مستحبة ؟)
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول ، وهو الراجح إن شاء الله
أن الاستعاذة قبل القراءة في الصلاة – وغيرها- سنة ، وليست بفرض وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء ، وبذلك قال أبو حنيفة ، والشافعي
قال الشافعي : ولا آمر بها في شيء من الصلاة وإن تركها ناسيا ، أو جاهلا ، أو عامدا لم يكن عليه إعادة ولا سجود سهو ، وأكره له تركها عامدا ، وأحب إذا تركها في أول ركعة أن يقولها في غيرها والدليل على ذلك :
أن النبي - (ص)- لم يعلمها الأعرابي حين علمه الصلاة , ولو كانت فرضا لم يخله من تعليمها قال الشافعي :
وإنما منعني أن آمره أن يعيد أن النبي(ص)علم رجلا ما يكفيه في الصلاة فقال : كبر ثم اقرأ ( قال ) ولم يرو عنه أنه أمره بتعوذ ولا افتتاح فدل على أن افتتاح رسول الله - (ص)- اختيار وأن التعوذ مما لا يفسد الصلاة إن تركه
القول الثاني :
أن الاستعاذة تجب عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها وبذلك قال ابن حزم :وفرض على كل مصل أن يقول إذا قرأ " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " لا بد له في كل ركعة من ذلك
دليلهم
الدليل الأول : أخذا بظاهر قول الله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) وهي عامة
الرد أن هذا العام مخصوص بحديث الأعرابي كما تقدم ، من كلام الشافعي
الدليل الثاني : مواظبته - (ص)- على الاستعاذة في الصلاة بعد الاستفتاح وهو ثابت عنه - (ص)- وعن الصحابة والتابعين
الرد أن كل هذه الآثار دليل على مشروعيتها ، والمشروع يكون مستحبا ويكون واجبا والاستدلال به على الوجوب مخالف لإجماع السلف ، فقد كانوا مجمعين على أنه سنة
القول الثالث ، ومن قال به :
قال الإمام مالك : لا يتعوذ في شيء من الفريضة , ولا التطوع إلا في صلاة القيام في رمضان , فإنه يبدأ في أول ليلة بالتعوذ فقط ثم لا يعود
الرد عليه :قال ابن حزم : وهذه قولة لا دليل على صحتها , لا من قرآن , ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ; ولا أثر ألبتة ; ولا من دليل إجماع , ولا من قول صاحب , ولا من قياس ; ولا من رأي له وجه "
بالقطع لا علاقة للصلاة بالاستعاذة الكلامية لأن الصلاة هى قراءة القرآن وهو ذكر أى وحى الله ومن ثم الاستعاذة لا مستحبة ولا مفروضة فى الصلاة فلو كان فيها شىء صحيح ما اختلف القوم وذكر كل منهم دليل منسوب للنبى(ص) زورا فالنبى(ص) لا يمكن ان يقول القول ونقيضه
ثم قال :
طالمسألة الثالثة : صيغ الاستعاذة وصفة التعوذ
للاستعاذة أربع صيغ :
أولاها وأفضلها : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
وهذا قول أبي حنيفة ، والشافعي ، لقول الله تعالى(فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم وهو اختيار أبي عمرو ، وعاصم وابن كثير رحمهم الله
قال الشافعي : وأحب أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
ثانيا : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وهي رواية عن أحمد ، وهي قراءة حفص من طريق هبيرة ، لـ خبر أبي سعيد ولقول الله تعالى
( فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) وهذا متضمن لزيادة
ثالثا : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم وهي رواية أيضا عن أحمد ، واختيار نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، لقوله تعالى (فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم)
رابعا : أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وهو واختيار حمزة الزيات ، ومحمد بن سيرين ، لظاهر قوله (فاستعذ بالله)
قال ابن قدامه : وهذا كله واسع , وكيفما استعاذ فهو حسن
قال الشافعي : وأحب أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وإذا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم وأي كلام استعاذ به أجزأه
المسألة الرابعة : هل يستعذ قبل القراءة أم بعدها ؟ (زمن الاستعاذة )
للقراء والفقهاء في محل الاستعاذة من القراءة ثلاثة أقوال :
أصحها : أنها قبل القراءة , وهو قول الجمهور , وذكر ابن الجزري الإجماع على ذلك , ونفى صحة القول بخلافه واستدلوا على ذلك بما رواه أئمة القراء مسندا عن نافع عن جبير بن مطعم أنه (ص)كان يقول قبل القراءة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقد دل الحديث على أن التقديم هو السنة فقد ثبت عن النبي (ص)وعن السلف الاستعاذة قبل القراءة والذين نقلوا صلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام ذكروا تعوذه بعد الافتتاح قبل القراءة
والاستعاذة قبل القراءة لنفي وساوس الشيطان عند القراءة , قال الله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم)
فإنما أمر الله بتقديم الاستعاذة قبل القراءة لهذه العلة أما قول من قال : الاستعاذة بعد الفراغ من القراءة شاذ وهذا القول منسوب إلى مالك واستدلوا بظاهر الآية { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } فدل على أن الاستعاذة بعد القراءة , والفاء هنا للتعقيب قال ابن العربي : انتهى العي بقوم إلى أن قالوا : إن القارئ إذا فرغ من قراءة القرآن حينئذ يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم
ومن أغرب ما وجدناه قول مالك في المجموعة في تفسير هذه الآية : { فإذا قرأت القرآن } الآية قال : ذلك بعد قراءة أم القرآن لمن قرأ في الصلاة , وهذا قول لم يرد به أثر , ولا يعضده نظر ولو كان هذا كما قال بعض الناس إن الاستعاذة بعد القراءة لكان تخصيص ذلك بقراءة أم القرآن في الصلاة دعوى عريضة لا تشبه أصول مالك , ولا فهمه , والله أعلم بسر هذه الرواية
قال الجصاص: قوله : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } يقتضي ظاهره أن تكون الاستعاذة بعد القراءة , كقوله : { فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا } لأن الفاء للتعقيب ، ولكن هذا ليس بصحيح ; لأن هذه الفاء للحال كما يقال :
إذا دخلت على السلطان فتأهب أي : إذا أردت الدخول عليه فتأهب
وقد جرت العادة بإطلاق مثله ، والمراد إذا أردت ذلككقوله تعالى : { وإذا قلتم فاعدلوا } وقوله : { وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب } وليس المراد أن تسألها من وراء حجاب بعد سؤال متقدم وكقوله تعالى : { إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة }كما قال : { إذا قمتم إلى الصلاة } معناه , إذا أردتم القيام إلى الصلاة , وكقوله : إذا أكلت فسم الله ; معناه : إذا أردت الأكل وكذلك قوله { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } معناه : إذا قرأت فقدم الاستعاذة قبل القراءة , وحقيقة معناه : إذا أردت القراءة فاستعذ
وكقول القائل : إذا قلت فاصدق وإذا أحرمت فاغتسل يعني قبل الإحرام , والمعنى في جميع ذلك إذا أردت ذلك كذلك قوله : { فإذا قرأت القرآن } معناه : إذا أردت قراءته
وهناك قول ثالث وهو :أن الاستعاذة قبل القراءة وبعدها , ذكره الإمام الرازي ، ونفى ابن الجزري الصحة عمن نقل عنه أيضا
المسألة الخامسة : التعوذ بعد الاستفتاح وليس قبله
قد جاءت النصوص مصرحة بأن التعوذ بعد دعاء الاستفتاح فعن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص) أنه كان إذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من (همزه ونفخه ونفثه )وهذا الحديث وإن كان فيه المقال المتقدم فقد ورد من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا منها :
ما أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي (ص)بلفظ : { اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم وهمزه ونفخه ونفثه } ، وأخرجه أيضا البيهقي
ومنها ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث جبير بن مطعم : أنه { رأى النبي (ص)صلى صلاة فقال : الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه }
ومنها ما أخرجه أحمد عن أبي أمامة بنحو حديث جبير ومنها عن سمرة عند الترمذي ومنها عن عمر موقوفا عند الدارقطني ، وهو أيضا عند الترمذي هذا مع ما يؤيد ثبوت هذه السنة من عموم القرآن والحديث مصرح بأن التعوذ المذكور يكون بعد الافتتاح بالدعاء المذكور في الحديث
وقال الأسود : رأيت عمر حين يفتتح الصلاة يقول : سبحانك اللهم وبحمدك , وتبارك اسمك , وتعالى جدك , ولا إله غيرك , ثم يتعوذ "
كما قلت الاستعاذة الكلامية التى حاول القوم نشرها لا تفيد المسلم بأى شىء ومن ثم فالحديث عن صيغها هو كلام لا فائدة منها لأن المراد من الاستعاذة كما قلت عمل وهو التوبة من الذنب وكل المسائل المترتبة على الاستعاذة فى الصلاة فيما بعد قائم على نفس الخطأ وهى:
المسألة السادسة : هل يتعوذ في الركعة الأولى فقط ، أم يتعوذ في كل ركعة ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول وهو الأرجح :أن التعوذ عند افتتاح الصلاة خاصة ، وأنها تختص بالركعة الأولى
وهو رواية عن أحمد ، وهو قول ابن حزم ، وهو ما رجحه ابن القيم ، وابن حجر والشوكاني ، كما سيأتي وهو ما رجحه الزيلعي في نصب الراية وعلى هذا ، فإذا ترك الاستعاذة في الأولى لنسيان أو غيره , أتى بها في الثانية والدليل على ذلك ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة – - قال : كان رسول الله (ص)إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين , ولم يسكت وهذا يدل على أنه لم يكن يستفتح ولا يستعيذ
ولأن الصلاة جملة واحدة فالقراءة فيها كلها كالقراءة الواحدة
قال الشوكاني : والحديث يدل على عدم مشروعية السكتة قبل القراءة في الركعة الثانية , وكذلك عدم مشروعية التعوذ فيها وحكم ما بعدها من الركعات حكمها , فتكون السكتة قبل القراءة مختصة بالركعة الأولى , وكذلك التعوذ قبلها ، وقد رجح صاحب الهدي الاقتصار على التعوذ في الأول لهذا الحديث
القول الثاني : يستعيذ في كل ركعة وهذا هو قول ، أبي حنيفة ، والشافعي ، والرواية الثانية عن أحمد دليلهم الدليل الأول : قول الله سبحانه وتعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } فيقتضي ذلك تكرير الاستعاذة عند تكرير القراءة
الرد عليه قال ابن حجر في التلخيص :
اشتهر من فعل رسول الله (ص)التعوذ في الركعة الأولى , ولم يشتهر في سائر الركعات ، أما اشتهاره في الأولى فمستفاد من الأحاديث المتقدمة، وأما عدم شهرة تعوذه في باقي الركعات فإنما لم يذكر في الأحاديث المذكورة، لأنها سيقت في دعاء الاستفتاح
وعموم قوله : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } يقتضي الاستعاذة في أول ركعة في ابتداء القراءة
قال الشوكاني : الأحاديث الواردة في التعوذ ليس فيها إلا أنه فعل ذلك في الركعة الأولى
الدليل الثاني : ولأنها مشروعة للقراءة , فتكرر بتكررها , كما لو كانت في صلاتين
الرد عليه قال السرخسي :وهذا فاسد فإن الصلاة واحدة فكما لا يؤتي لها إلا بتحريمة واحدة فكذا التعوذ والله أعلم
المسألة السابعة : هل يتعوذ للسورة التي بعد الفاتحة ؟قال ابن حزم :
وليس على الإمام والمنفرد أن يتعوذا للسورة التي مع أم القرآن ; لأنهما قد تعوذا إذ قرآ ومن اتصلت قراءته فقد تعوذ كما أمر , ولو لزمه تكرار التعوذ لما كان لذلك غاية إلا بدعوى كاذبة , فإن قطع القراءة قطع ترك أو أراد أن يبتدئ قراءة في ركعة أخرى تعوذ - كما أمر - وبالله تعالى التوفيق
المسألة الثامنة : هل يسر بالاستعاذة أم يجهر؟
قال السرخسي :يتعوذ المصلي في نفسه إماما كان أو منفردا ; لأن الجهر بالتعوذ لم ينقل عن رسول الله (ص)ولو كان يجهر به لنقل نقلا مستفيضا والذي روي عن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه جهر بالتعوذ تأويله أنه كان وقع اتفاقا لا قصدا أو قصد تعليم السامعين أن المصلي ينبغي أن يتعوذ كما نقل عنه الجهر بثناء الافتتاح قال ابن قدامة :ويسر الاستعاذة , ولا يجهر بها , لا أعلم فيه خلافا قال ابن تيمية :
في رجل يؤم الناس , وبعد تكبيرة الإحرام يجهر بالتعوذ , ثم يسمي ويقرأ , ويفعل ذلك في كل صلاة ؟الجواب : إذا فعل ذلك أحيانا للتعليم ونحوه , فلا بأس بذلك , كما كان عمر بن الخطاب يجهر بدعاء الاستفتاح مدة , وكما كان ابن عمر وأبو هريرة يجهران بالاستعاذة أحيانا وأما المداومة على الجهر بذلك فبدعة , مخالفة لسنة رسول الله (ص)وخلفائه الراشدين فإنهم لم يكونوا يجهرون بذلك دائما , بل لم ينقل أحد عن النبي (ص)أنه جهر بالاستعاذة , والله أعلم
المسألة التاسعة : هل يتعوذ المأموم ؟
قال ابن قدامة :إن كان في حقه قراءة مسنونة , وهو في الصلوات التي يسر فيها الإمام , أو التي فيها سكتات يمكن فيها القراءة , استفتح المأموم واستعاذ , وإن لم يسكت أصلا , فلا يستفتح ولا يستعيذ , وإن سكت قدرا يتسع للافتتاح فحسب , استفتح ولم يستعذ قال ابن منصور : قلت لأحمد : سئل سفيان أيستعيذ الإنسان خلف الإمام ؟ قال : إنما يستعيذ من يقرأ قال أحمد : صدق
وقال أحمد أيضا : إن كان ممن يقرأ خلف الإمام قال الله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } وذكر بعض أصحابنا أنه فيه روايات أخرى , أنه يستفتح ويستعيذ في حال جهر الإمام ; لأن سماعه لقراءة الإمام قام مقام قراءته , بخلاف الاستفتاح والاستعاذة والصحيح ما ذكرناه
المسألة العاشرة : هل يستعيذ المسبوق؟قال ابن قدامة :والمسبوق إذا أدرك الإمام فيما بعد الركعة الأولى لم يستفتح , وأما الاستعاذة , فإن قلنا : تختص بالركعة الأولى لم يستعذ نص على هذا أحمد وإن قلنا : يستعيذ في كل ركعة استعاذ ; لأن الاستعاذة في أول قراءة كل ركعة , فإذا أراد المأموم القراءة استعاذ ; لقول الله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }
المسألة الحادية عشر : إن شرع في القراءة قبل الاستعاذة قال ابن قدامة :وإن شرع في القراءة قبل الاستعاذة , لم يأت بها في تلك الركعة ; لأنها سنة فات محلها
المسألة الثانية عشر : هل يتعوذ إذا قطع القراءة ؟
قال ابن مفلح :إن قطعها قطع ترك وإهمال على أنه لا يعود إليها أعاد التعوذ إذا رجع إليها , وإن قطعها بعذر عازما على إتمامها إذا زال عذره كفاه التعوذ الأول , وإن تركها قبل القراءة فيتوجه أن يأتي بها ثم يقرأ ; لأن وقتها قبل القراءة للاستحباب فلا يسقط بتركها إذن ; ولأن المعنى يقتضي ذلك , أما لو تركها حتى فرغ سقطت لعدم القراءة وفي الموسوعة الفقهية :
إذا قطع القارئ القراءة لعذر , من سؤال أو كلام يتعلق بالقراءة , لم يعد التعوذ لأنها قراءة واحدة وفي( مطالب أولي النهى ) : العزم على الإتمام بعد زوال العذر شرط لعدم الاستعاذة ، أما إذا كان الكلام أجنبيا , أو كان القطع قطع ترك وإهمال فإنه يعيد التعوذ , قال النووي : يعتبر السكوت والكلام الطويل سببا للإعادة
المسألة الثالثة عشر :
خطأ قول القائل : قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لأن الله لم يقل ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) إنما قال الآية ، وأمر بالاستعاذة "
ومن ثم فالاستعاذة الكلامية كلام باطل وإنما هى استعاذة عملية