نظرات فى الرسالة البحرانية معنى الفناء بالله
الرسالة عبارة عن سؤال من حسين البحرانى إلى أحمد الأحسائى لبيان معنى الفناء بالله وفى أولها قال الأحسائى:
"الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وبعد، فيقول العبد المسكين أحمد بن زين الدين الأحسائي قد أرسل إلي بعض السادة الصالحين الطالبين للحق والدين وهو السيد السند السيد حسين بن السيد عبد القاهر بن السيد حسين البحراني في تبيين كلام الملا الكاشاني في معنى الفناء بالله والبقاء بالله وما يسنح لذلك من المعاني فكتب لي بلغة الله على الأماني عبادة الملا فجعلتها كالمتن المحلى وجعلت تلك الكلمات كالشرح لها بل أجلى.
قال أطال الله في الخيرات بقائه وأسعده بحسن لقائه ورضاه، قال رحمه الله قال أهل المعرفة المراد بفناء العبد ليس بفناء ذاته."
كان هذا السؤال وأما الجواب فهو :
"أقول : إنما قالوا ليس فناء ذاته يعني في الله لأن ذلك يستلزم الاتحاد والاتحاد يستلزم سادات المتحدين أو مجانستها ولا يكون ذلك لامتناع ذلك عليه سبحانه ولقدسه عن امكان المساواة والمجانسة والمتصوفة قالوا بذلك المعنى يتوالونه فخروا من السماء فخطفتهم الطير وهوت بهم الريح في مكان سحيق وإن كان يومهم على بعض من ادعى العرفان بأنه حق وذلك لعدم تحقق عرفانه ومن أشعارهم فيما تأولوه قول شاعرهم:
جعلت نفسك في نفسي
كما جعل الخمر في الماء الزلال
فإذا سرك شيء سرني
فإذا أنت أنا في كل حالي
ولا فائدة في الكلام معهم ولسنا بصدد كلامهم، وبالجملة فليس المراد بفناء العبد في الله فناء ذاته في الله لما قلنا."
وهذا الجواب إلى هنا صحيح فالفناء فى الله غير ممكن بمعنى الاتحاد بين الله والمخلوق لعدم تواجد الله فى المكان وهو السموات والأرض
وقال الكاشانى :
"قال : بل المراد فناء الجهة البشرية التي في جهة ربوبية الحق فإن كل عبد له جهة من الحضرة الإلهية ولكل جهة هو مولييها"
وكان رد الأحسائى :
"أقول : إن مرادهم بفناء العبد في الله فناء جهة البشرية التي هي وجوده من الله سبحانه في ربوبية الحق سبحانه بأن لا يكون له اعتبار من نفسه وليس له التفات إلى حال من أحواله بل كلها مستغرقة في الاقبال على الله والإلتفات إلى جنابه في حركات العبد وسكناته وجميع شئونه كما قال تعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له) وبذلك أمرت والمثل في ذلك ولله المثل الأعلى مثل عبد عرف مالكه بحيث كانت جهة عبوديته ورقيته فانية في جهة مالكه مولاه بمعنى أنه في جميع أحواله ليس له اعتبار من نفسه لا يفعل إلا ما أمره سيده ولا يتحرك ولا يسكن إلا بما يأمره مولاه فهو مراقب في كل أحواله لخدمة مولاه، ففي الحقيقة هذا العبد عرف مولاه حق معرفته بحيث فنيت جهة عبوديته ورقيته في مالكية مولاه"
إذا الأحسائى يقول أن الفناء معناه طاعة العبد لله فى كل شىء وهو ما سماه المعرفة والخدمة وإن كان عبر عنه بألفاظ غامضة نوعا ما
وأحب أن يزيد الأمر وضوحا فخرف فقال :
"ولو أنه فعل شيئا بغير أمر مولاه لكان حينئذ مستقلا في ذلك الفعل متعينا في نفسه بحيث يقال أن فعله هذا الشيء ليس فعلا لمولاه لأنه ليس بأمره ولا يكون في هذه الحال فانيا بعبوديته وجهة رقيته في مالكية مولاه بل خالف مقتضى ذلك، وفي الحال الأول في الحقيقة فعله هو فعل مولاه ولا يلام على شي قط بخلاف الحال الثاني فإنه ملوم لاستقلاله بفعله فلا يكون في فعله فانيا في مالكية المولى قال الله تعالى تحقيقا كما في الحال الأول (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) فجعل سبحانه فعل نبيه (ص) مستهلكا في فعله سبحانه"
بالقطع العبد عندما يعصى الله لا يكون فانيا فى الله بذلك المعنى والحقيقة أن فعل العبد هو نفسه فعل الخالق سواء كان طاعة أو عصيان كما قال تعالى :
" وما تشاءون إلا أن يشاء الله"
والمعنى أن المخلوق وعمله هو عمل الخالق كما قال إبراهيم(ص):
"والله خلقكم وما تعملون"
وتحدث عن جهة الحضرة الإلهية فى الإنسان بمعنى افتقار الإنسان لله فى قوله :
"لأنه فني فيه بهذا المعنى وقوله فإن كل عبد له جهة من الحضرة الإلهية يعني به أن العبد في كل أحواله وشئونه ليس له من نفسه ولا من أحد من الخلق حول ولا قوة لأن الممكن أبدا مفتقر إلى الغير في تحقيق شيئيته"
وتلك العبارة تعيدنا إلى الغموض فكل المخلوقات مفتقرة إلى الله وليس الإنسان وحده فيكون فى كل منها جهة للحضرة الإلهية وهو ما يؤدى لنا فى النهاية إلى العودة للمعانى الغامضة عند الصوفية
وصور الأحسائى ما أراد شرحه بصورة الإنسان فى المرآة فقال :
"وهو في كل أحواله متوجه بوجه استعداده لقبول ذلك المدد الذي به قوامه من ذلك الغير إلى جهة خاصة به من حضرة المفيض ومثاله الصورة في المرآة ليس لها قوام بنفسها ولا تحقق وإنما تقومت بالمدد التي تستمده من المقابل وذلك المدد هو حقيقتها من الجهة الخاصة بها من المقابل، فإذا قابلت المرآة الوجه من الشخص مثلا انطبعت فيها صورة الوجه وتلك الصورة المنطبعة لا حقيقة لها إلا صورة الوجه وبها قيوميته المنطبعة وهي محتاجة إلى دوام الاستمداد وإلى جهة الوجه تولت المنطبعة وإلا لم تكن شيئا وتلك الجهة هي باب الوجه يعني ظاهر الصورة وهي جنابه أيضا فالوجه ممد المنطبعة من هذا الباب والمنطبعة راقصة على هذا الباب بسؤال استعدادها وقابليتها لائذة بإمكانها وفقرها لذلك الجناب وإليه الإشارة لقول سيد العابدين (إلهي وقف السائلون بباك ولاذ الفقراء بجنابك) ولهذا استدل مأولا بقوله تعالى (ولكل وجهة هو مولييها) ولكن هنا سر انطوى عن أكثر العارفين وستر عن أكبر الواصلين وهو قوله تعالى (مولييها) لأنه ولاها، تولت بتوليته وهو سر خفي من أسرار القدر مقنع بسر مقنع بسر لا يفتح إلا بمقلاد من مقاليد اللاهوت، وبالجملة فجهة المنطبعة يعني أنيتها وشيئيتها في جهة صورة الوجه كما مر."
وهذا التشبيه خاطىء فالمرآة تستمد الصورة من وجود الإنسان أمامها بأى حال فالإنسان ليس ممد لها لأنه لو وقف أمام جدار فلن يكون هناك صورة له إلا فى حالة وجود مصدر ضوء يجعل الخيال على الجدار وهو يختفى بتحرك بتحرك مصدر الضوء
ولا يجوز تشبيه الله والإنسان بالإنسان أمام المرآة لقوله تعالى :
" ليس كمثله شىء"
ونقل عن الكاشانى قوله :
"قال رحمه الله وهذا الفناء لا يحصل إلا بالتوجه التام إلى جناب الحق المطلق حتى تغلب الجهة الحقية على الجهة الخلقية لأنك إذا نظرت إلى الصورة المنطبعة مع قطع النظر عن صورة الوجه تحقق لها ماهية في نفسها وشيئية قائمة بذاتها ولكنك جهلت الحقيقة ولم تعرف الأمر على ما هو عليه في نفس الأمر لأن حقيقتها ليس شيئا إلا بما ظهر فيها من صورة الوجه المقابل فإذا نظرت بهذا الاعتبار ومحوت موهومها صحى لك المعلوم عن تلك الحقيقة إنها هي صورة الوجه المقابل وهو معنى غلب الجهة الحقية على الجهة الخلقية فإذا عرفت ذلك وهو فناء جهة المنطبعة في جهة الوجه عرفت المنطبعة بالوجه لا العكس وعرفت الوجه بالوجه قال (يا من دل على ذاته بذاته) وقال (الله أجل من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون به) وقال أمير المؤمنين (لو عرفت الله بمحمد صلى الله عليه وآله ما عبدته)"
وكل هذا الأحاديث المنقولة ليست من الوحى وإنما هو كلام إنسان أيا كان على أو غيره وهى تدل على الجهل بكتاب الله لأن الله من استدل بخلقه عليه فقال :
" سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين أنه الحق "
فالاستدلال على الله بنفسه غير ممكن لكونه غير مرئى وغير ملموس أو محسوس أى غيب
وحاول الشرح بضرب مثال أخر هو الفحم والنار كمثال المرآة فقال :
"ثم إنه رحمه الله ضرب مثلا لهذا الفناء كما ضربوه فقال كقطعة الفحم المجاورة للنار فإنها بسبب المجاورة والاستعداد بقبول النارية تشتعل قليلا إلى أن تصير نارا فيحصل منها ما يحصل من النار من الاحراق والانضاج والإضاءة وغيرها، وقبل الاشتعال كانت باردة كدر وهذا المثال مثال الحال العارف الفاني ومآل أمره فإنه إذا قطع الاعتبارات حتى قطع الاعتبارات نفسها كما قال علي (كشف سبحات الجلال من غير اشارة) يعني أن الإشارة أيضا من سبحات الجلال فهي حجاب بل كشف حجاب، ولهذا روي عنهم ما معناه (أن المحبة حجاب بين المحب والمحبوب) فإذا كشف جميع الاعتبارات تحقق الفناء وحصل له حقيقة المثال يعني مثال الفحمة إذا اشتعلت بالنار أنها تكون بصفة النار وهو قول علي عليه السلام (وخلق الانسان ذا نفس ناطقة إن زكاها بالعلم والعمل فقد شابهت جواهر أوائل عللها فإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد)
وإذا تحقق ذلك تحققت محبة الله له فيكون كما قال تعالى في الحديث القدسي (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده الذي يبطش بها) الحديث ، وقوله تعالى أيضا (يا عبدي أنا أقول للشيء كن فيكون....الخ) وبهذا الكشف يظهر لك الحجة في قول الحجة (لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك) ثم بين رحمه الله الطريق الموصل إلى ذلك فقال (وذلك التوجه لا يمكن إلا بالاجتناب عما يضادها ويناقضها وهو التقوى مما عداها، فالمحبة هي المركب والزاد هو التقوى يعني أن كل مسافر يريد قطع مسافة يحتاج إلى الزاد والراحلة لأنهما شرط الاستطاعة وهذا السفر قبل حصول الشروط وقبل قطع المسافة والبلوغ إلى الغاية بعد من كل سفر لأن السفر قد ذكره الله في قوله (لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) وهذا لم تبلغوا إلا بكل الأنفس وإذا حصلت الشروط كان هذا السفر أقرب من كل سفر قال (أن الراحل إليك قريب المسافة) فأخبر بقرب المسافة للراحل إلا للمقيم فافهم، فالمطية هي المحبة يعني الصادقة وهي إيثار المحبوب على كل ما سواه والطريق الموصل والثمن المبلغ إلى تحصيل هذه الراحلة الطيبة هي القيام الآداب الشراعية والصبر على الأخلاق الروحانية قال تعالى (ما زال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به)
وأما الزاد فقد أمر الله بذلك العباد فقال تعالى (وتوزدوا فإن خير الزاد التقوى) وهي تقوى الله في سرك وتقوى نفسك في أحوالك وتقوى الناس في معاملاتهم وما يرتبط ويتعلق بهم وهو معنى قوله الاجتناب عما يضادها ويناقضها في هذه المراتب الثلاث والضمير في يضادها ويناقضها يعود على الجهة الحقية والمناقض لها الجهة الخلقية نفسها وجميع ما لها من أحكام الأمكان فمن ألقها بحذافيرها حييت بربها قال تعالى في حق موسى (وما تلك بيمينك) أي بوجودك (يا موسى) (قال هي عصاة أتوكأ عليها) يعني أتوكا عليها في تحقق الأنية (وأهش بها على غنمي) من دعاياه وأنعامه من جميع أمته (ولي فيها مآرب أخرى) ستدل بفقرها على غناك وبجهلها على علمك وبعجزها على قدرتك وبحدوثها على أزليتك وبعدم حصرها على سرمديتك وبعدم حلولها على تفردك وغناك وبعدم معرفتها على قدسك ومفارقتها على بينونتك عن خلقك بصفتك إلى غير ذلك (قال ألقها يا موسى) واستغني لي عما سواي ولا تعتمد على غيري ولا تلتفت إلى شي فأكلك إليه (فألقاها) بكل اعتبار (فإذا هي حية تسعى) وهي مثال للبقاء بالله قال خذها بعد ما حييت بالإلقاء سنعيدها في قوس أدبر فأدبر سيرتها الأولى فافهم فهمك الله
وإياك واسم العامرية إنني
أخاف عليها من فم المتكلم
ولقد لوحت لأهل الإشارة على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم قال الشاعر
أخاف عليك من غيري ومني
ومنك ومن مكانك والزمان
ولو أني جعلتك في عيوني
إلى يوم القيامة ما كفاني
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد وآله الطاهرين والحمدلله رب العالمين
وكل هذا الكلام عن كون الله يد العبد المسلم فقط وسمعه وبصره ... يخالف أن الله بنفس المعنى مع العبد الكافر لقوله تعالى :
" وما تشاءون إلا أن يشاء الله"
فالحديث باطل ويغنى عنه قوله تعالى :
" إن الله يدافع عن الذين آمنوا "
والحقيقة أن معنى الفناء حسب قوله تعالى :
"كل من عليها فان"
هو الموت ومن ثم يكون هناك معنى واحد للفناء فى الله وهو الاستشهاد فى سبيل الله أى الموت دفاعا عن دين الله
وأما تلاعب القوم بألفاظ غامضة وجرنا إلى مناطق لا يرى فيها الناس الحقيقة فهو فعل من يريد إضلال الناس ببذلك التلاعب اللفظى الذى يؤدى بالناس فى النهاية لارتكاب المحرمات
ومثال الفحم والنار كمثال المرأة وجسم الإنسان الغرض منه نشر نظرية المدد أو الفيض وهى بمعناها الفلسفى بعيدة كل البعد عن الإسلام
والخلاصة أن كل أعمال الإنسان طاعة وعصيانا خالقها الله كما قال :
" الله خالق كل شىء"
ومن ثم لا داعى لـتأويل أحاديث باطلة